لن يعود المارد الرقمي إلى الفانوس .. كيف نسخر الخير للحد من الشر؟

لن يعود المارد الرقمي إلى الفانوس .. كيف نسخر الخير للحد من الشر؟

قبل بضعة أعوام، بدأت سيمون تايت شركة استشارية هادفة للربح تسمى بوبي سيد لمساعدة النساء والأمهات الجدد اللاتي يعانين مشكلات في الصحة النفسية حول الحمل، مثل الإجهاض واكتئاب ما بعد الولادة.
لو أسستها قبل عقدين، لربما ركزت رائدة الأعمال الأمريكية على الاستشارات وجها لوجه أو بالمكالمات الهاتفية. لكن لأننا نعيش في عصر رقمي، قررت تايت استكشاف ما إذا كان الدعم عبر الإنترنت يمكن أن يفي بالغرض عوضا عنهما. كان هناك شيء مفاجئ. مع أنها افترضت أن العملاء سيرغبون في تقديم المشورة من خلال جلسات الفيديو أو الهاتف، إلا أن دراستها للسوق أظهرت أنهم يفضلون الرسائل النصية بالفعل.
ومع أن الرسائل النصية عملية شاقة نسبيا ويمكن أن تبدو مجزأة، فإنها تتمتع بميزة مهمة، إذ يمكن للمرأة إرسال رسائل قصيرة إلى الأخصائي كلما شعرت بيأس، مثلا في منتصف الليل، دون إيقاظ أي أحد. هذا مفيد إذا كان لديك رضيع.
توضح تايت قائلة: "توجد فائدة فيما أسميه إخفاء الهوية عن المعالج. لست مضطرا للحضور إذا كنت تريد مساعدة، ويمكنك فقط الدردشة مع شخص ليس في شبكتك ويمكنه أن يسدي لك نصائح عملية تحتاج إليها في اللحظات العصيبة". تشير تايت إلى إحصائية مروعة لا يعرفها كثير عن الأمومة في الولايات المتحدة، الانتحار الآن هو أكبر سبب للوفاة بين الأمهات الشابات بسبب بلوى مشكلات الصحة النفسية.
بين أبريل 2021 و2023، سجلت "بوبي سيد" أربعة ملايين دقيقة في الكتابة (كل تفاعل يستمر في المتوسط 37 دقيقة). لكنها ليست المجموعة الوحيدة التي تركب هذا الاتجاه.
الصيف الماضي، أطلقت حكومة الولايات المتحدة الشبكة الوطنية المجددة لمكافحة الانتحار، التي وفرت خيار تواصل بالكتابة النصية. جاء ذلك بعد نداءات من مشاريع أخرى. ومثل "بوبي سيد"، وجدت تلك المشاريع أن الذين تريد مساعدتهم يفضلون التواصل كتابة في الأغلب.
توجد خدمات نصية نشطة أخرى، مثل خط الأزمات الكتابي (منظمة أمريكية غير ربحية تقدم دعما مجانيا للصحة النفسية) أو شاوت 85258 في المملكة المتحدة (خط مكافحة الانتحار). سجلت الأخيرة مليوني محادثة نصية أثناء الجائحة تقريبا، ويستمر عددها في النمو، كما أخبرتني فيكتوريا هورنبي، رئيسة ابتكارات الصحة النفسية، التي تدير "شاوت". هي تعتقد أن الخدمات تروق للمستخدمين، صغار عادة، من ذوي الإدراك المختلف غالبا، لأنها خاصة ويسهل الوصول إليها، والأهم، تمنح الناس "تحكما أعلى" في وتيرة التفاعل من المحادثة اللفظية.
لبعض أبناء الجيل إكس مثلي، الذين لم يكبروا برفقة هواتف محمولة، قد يبدو هذا صادما قليلا. بعد كل شيء، تربى جيلي على الاعتقاد بأن التواصل وجها لوجه هو الأمثل للمحادثات الصعبة أو المهمة، تليها المكالمات الهاتفية. لدرجة أني أجد تفضيل المراهقين في كثير من الأحيان التواصل من خلال نصوص لا نهاية لها بدلا من مجرد رفع سماعة الهاتف أمرا غريبا.
توجد مجموعة كبيرة من الأدلة أثبتها علماء نفس تدعم فطرة الجيل إكس كما يبدو. من أبرزها، دراسات تظهر أنه عندما يجري الناس محادثات، لا يحدث التواصل بالمحتوى الفعلي للحوار، بل من خلال نبرة الصوت ولغة الجسد والردود التفاعلية. لا يمكن نقل ذلك بالكلمة المكتوبة، كما يعلم أي شخص بدرت منه إساءة بسبب نص طائش.
علاوة على ذلك، يشتبه علماء النفس في أن الهجرة إلى الاتصالات الرقمية هي أحد العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى تفاقم ارتفاع مشكلات الصحة النفسية، خاصة بين المراهقين. جادل جوناثان هايدت من جامعة نيويورك مرارا بأن مستوى اكتئاب المراهقين وكراهية الذات والعزلة قد ارتفع مع استخدام الهاتف المحمول. وثق زميلي جون بيرن مردوخ اتجاهات مماثلة، كما فعل كبير المسؤولين الطبيين في الولايات المتحدة فيفيك مورثي.
لكن التاريخ يظهر أن الابتكار سيف ذو حدين. يمكن أن يؤدي الاندفاع إلى الفضاء السيبراني إلى توليد العزلة والتنمر والاكتئاب، لكن يمكن للرسائل النصية أيضا أن تقدم معروفا، كما تظهر "بوبي سيد" و"شاوت". عمليات الإغلاق جعلتنا جميعا نقتات على التواصل، نقفز بين المنصات في أوقات مختلفة لتلبية احتياجات مختلفة. يستخدم بعض المراهقين الذين أعرفهم والذين يتلقون مساعدة للاكتئاب العلاج وجها لوجه، لكنهم يعتمدون أيضا على منصة زووم، ويكملون ذلك برسائل نصية في لحظات الأزمات. يقول أحدهم: "يعتمد الأمر على ما أشعر به".
بالإشارة إلى هذا، لا أعني التقليل من تأثير الجوانب السلبية للرقمنة على صحتنا النفسية، فهي مثبتة إثباتا وافيا. لكن في المرة المقبلة التي تميل فيها إلى شجب تأثير التكنولوجيا في حياتنا، تذكر الإيجابيات. لن يعود المارد الرقمي إلى الفانوس، لذا السؤال هو كيف نسخر الخير للحد من الشر؟

الأكثر قراءة