أمريكا .. الغوريلا الوحيدة في غابة الأدوية
عندما نتحدث عن الإنفاق على العقاقير، هناك غوريلا وزنها 500 رطل في الغرفة: وهي الولايات المتحدة. كانت السوق الأمريكية منذ فترة طويلة هي اللاعب ذا الوزن الثقيل –أنفق الأمريكيون أكثر من 600 مليار دولار على الأدوية خلال العام الماضي، نحو نصف الإجمالي العالمي.
يهيمن البلد أيضا على قاعدة الأبحاث، حيث يمثل إنفاقها على البحث والتطوير نحو ثلثي إجمالي إنفاق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
في العام الماضي، كان لدى الولايات المتحدة 10265 عقارا قيد التطوير، أي أكثر من ضعف كل من الصين والاتحاد الأوروبي، وأربعة أضعاف المملكة المتحدة.
وبينما يعني هذا أن أولويات الولايات المتحدة تلعب دورا كبيرا في تحديد أجندة البحث، فإن بلدانا أخرى تستفيد بهدوء من الاعتماد على الابتكار الأمريكي. إن الخطوة التي اتخذتها إدارة بايدن الأسبوع الماضي باستهداف عشرة أدوية من الأكثر مبيعا من أجل تنظيم صارم لأسعارها ستهز هذه السوق العالمية.
إن الدافع لخفض أسعار علاجات القلب، والسكتة الدماغية، والسكري، والسرطان لن يؤدي إلى تقليص ربحية شركات تصنيع الأدوية فحسب، بل يمكن أن يعيد تشكيل اكتشاف الأدوية، ما يؤثر في الأدوية المتاحة للمرضى حول العالم.
الأمريكيون، الذين يدفعون ثمن الأدوية ذات العلامات التجارية ثلاثة أضعاف متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يؤيدون بأغلبية ساحقة فكرة تفاوض حكومتهم من أجل خفض الأسعار. لكن ينبغي لصناع السياسات في كل مكان أن يكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة اضطرابات السوق اللاحقة. والآن أصبح هناك خطر يتمثل في تحويل تركيز مشاريع البحث والتطوير من الأدوية التي تشتد الحاجة إليها إلى الأدوية التي تتجنب ضوابط الأسعار في الولايات المتحدة.
خلافا لمعظم بلدان أوروبا، لم تضبط الحكومة الأمريكية في السابق أسعار الأدوية. سمح قانون خفض التضخم العام الماضي لبرنامج "الرعاية الصحية" للمتقاعدين الممول من دافعي الضرائب، بالتفاوض بشكل مباشر مع شركات تصنيع الأدوية. كما تعتزم السعي للحصول على تخفيضات بنسبة 25 في المائة أو أكثر للأسعار المطروحة، مع التركيز على الأدوية الأكثر مبيعا التي تقترب من نهاية حماية براءات الاختراع. من المتوقع أن يوفر هذا على برنامج الرعاية الصحية ما يقارب 100 مليار دولار على مدى عقد، بينما يقلل التكاليف التي يدفعها كثير من كبار السن الأمريكيين.
شككت شركات الأدوية، التي يتعين عليها التفاوض أو دفع ضرائب عقابية، فيما إذا كان هذا الإجراء دستوريا، ورفعت بعضها دعاوى قضائية. كما تتوقع أن تحاول شركات التأمين الخاصة خفض ما تدفعه أيضا، ما يؤدي إلى خفض الإيرادات انخفاضا حادا. ومع توسع قائمة الأدوية المغطاة، تحذر الصناعة من أن ذلك سيضغط على ميزانيات البحث والتطوير ويحد من عدد العقاقير قيد التطوير التي يمكنها دعمها.
كما أن الحدود القصوى للأسعار قد تجعل من الصعب جذب استثمارات رأس المال المغامر؛ لأن المردود المحتمل سيكون أقل.
هذا أمر مثير للقلق بشكل خاص؛ لأن كثيرا من أبحاث الأدوية في المراحل المبكرة يتم إجراؤها الآن بواسطة شركات ناشئة تبيع منتجاتها لاحقا إلى شركات الأدوية الكبرى.
بدأ الشعور بتأثير ذلك بالفعل خارج حدود أمريكا. قال توماس شينيكر، الرئيس التنفيذي لشركة روش السويسرية لصناعة الأدوية في مكالمة إعلامية حديثة: "لقد قررنا أننا لن نجري تجارب معينة، أو لن نعقد صفقة اندماج أو استحواذ أو ترخيص لأنها أصبحت غير مجدية من الناحية المالية".
من المرجح أن تتأثر أدوية كبار السن والأبحاث المتعلقة بالاستخدامات الجديدة للأدوية التي تقترب من نهاية حماية براءات الاختراع بالحدود القصوى للأسعار. وربما تعطي الشركات المصنعة الأولوية للعلاجات ذات الجزيئات الكبيرة، مثل أدوية العلاج الجيني أو اللقاحات، على العلاجات التقليدية، وذلك ببساطة لأن الأولى معفاة من مفاوضات الأسعار لفترة أطول.
قد تكون أغلب تحذيرات شركات الأدوية الكبرى مثيرة للذعر. يقتصر برنامج "الرعاية الصحية" على الأدوية ذات الشعبية الكبيرة التي استردت بالفعل تكاليف تطويرها أضعافا مضاعفة. والنظام الحالي للتسعير غير الخاضع للرقابة غير ناجح ابتكاريا. يقول منتقدون إنه يكافئ الأدوية "المقلدة" والمشابهة للغاية التي لا تقدم سوى ميزة صغيرة مقارنة بالعلاجات الموجودة أصلا، فضلا عن عمليات إعادة التركيب البسيطة لإطالة عمر براءات اختراع الأدوية. وجدت إحدى الدراسات الحديثة أن أقل من ثلث الأدوية الجديدة المعتمدة في أوروبا والولايات المتحدة بين 2007 و2017 تم تصنيفها على أنها ذات "قيمة علاجية عالية".
ربما يستفيد المصنعون أيضا من جزء آخر من إصلاحات قانون خفض التضخم الذي يضع حدا أقصى لتكاليف العقاقير التي يدفعها المرضى من جيوبهم الخاصة. نحو 30 في المائة من مرضى الرعاية الصحية لا يشترون الأدوية الجديدة الموصوفة للسرطان بسبب مخاوف تتعلق بالتكلفة. تشرح ستيسي دوسيتزينا، الأستاذة في جامعة فاندربيلت، قائلة: "قد يعوضون الانخفاض في السعر بزيادة في الحجم".
أمام الولايات المتحدة عدة أعوام لإصلاح مكامن الخلل في نظامها الجديد: فلن تدخل الأسعار الأولى التي تم التفاوض عليها حيز التنفيذ قبل 2026. لكن الاضطرابات لا بد أن تكون بمنزلة نداء يقظة للأمريكيين وغيرهم.
إن الأسعار المرتفعة في الولايات المتحدة ليست الطريقة الوحيدة لتمويل التقدم الطبي العالمي. وسيتعين على البلدان الأخرى أن تسهم بشكل أكبر، لكن ليس من الضروري أن تكون باهظة الثمن للمرضى. يمكن للحكومات أن تمنح شركات صناعة الأدوية الدعم من خلال تمويل الأبحاث حول أسباب المرض، إضافة إلى المسارات والمستقبلات التي يمكن أن تكون أهدافا للعلاج. كما يمكنها أيضا تقليل المخاطر عن طريق المساعدة على تمويل التجارب السريرية وضمان المبيعات. تظهر التجارب الأخيرة مع لقاحات كوفيد أن هذا يمكن أن ينجح.
إن حجم صناعة الأدوية الأمريكية وثروتها وبراعتها العلمية أمور ستجعلها تلعب دورا كبيرا دائما. لكن لا ينبغي أن تكون الغوريلا الوحيدة في الغرفة بعد الآن.