طاقة الهيدروجين .. السياسات العالمية والدروس المستفادة «3 من 3»

ذكرنا مسبقا مراجعة لأهم ممارسات ومستهدفات عالمية وأرقام اقتصادية لإنتاج الهيدروجين، ويتبين أن أغلب السياسات تهدف صراحة إلى تبني الهيدروجين الأخضر بحجة التغير المناخي والتلوث البيئي، وقد تكون بعضها أقرب إلى أن تكون مجرد مبادرات، بيد أن الملاحظ أن كلها أصدرت وأخرجت للعلن منذ أربعة أو خمسة أعوام مضت. إن التكلفة سيدة الموقف حاليا في ثبات الهيدروجين الرمادي على رأس السوق، لكن يعول كثيرا في بعض السياسات على ازدهار التقنيات وتطورها، بحيث يصل معدل تكلفة إنتاجه إلى درجة منافسة مع مثيلها الهيدروجين الرمادي. ويظل الهيدروجين الأزرق خيارا واقعيا بحكم أن معدل تكلفة إنتاجه أفضل حالا من الأخضر، على الرغم من أن تكلفة البنية التحتية للهيدروجين الأزرق تمثل مصدر قلق. ويغيب الهيدروجين الوردي عن سياسة إنتاج الهيدروجين لأن عدد محطات الطاقة النووية محدود في دول معينة مقارنة بالطاقة المتجددة ولوجود تشاريع قانونية مزعجة، فضلا عن التكلفة الرأسمالية العالية لبناء محطات طاقة نووية جديدة. ولعلنا نشير إلى أن أجهزة التحليل الكهربائي، التي تستخدم في إنتاج الهيدروجين الأخضر والوردي، تعاني التكلفة العالية وتواضع الكفاءة، وهذا موضع بحث وتطوير يستحق تعاضد دور البحث والتطوير. من جانب آخر، لا يطرح معظم السياسات خريطة طريق واقعية، فضلا عن تبيان التأثيرات الاجتماعية والبيئية في مجمل سياسة إنتاج الهيدروجين. وكأنها تأمل نحو انخفاض مكونات إنتاجه، مثل أجهزة التحليل الكهربائي مع مرور الوقت، وتكرار ما حدث مع صناعة الطاقة الشمسية الكهروضوئية عندما كانت الأسعار فلكية في القرن الماضي، قبل هبوطها بشكل سريع ووصول تكلفتها إلى الدرجة التنافسية مع مثيلاتها من الوقود الأحفوري. بل إن بعض الاستراتيجيات الدولية لا يوضح الكيفية التي سيتم بها إنتاج كثير من الهيدروجين الأخضر من مصادر منخفضة الانبعاثات، ولا تتطرق بعض السياسات إلى إدارة المخاطر أو التكاليف الدقيقة أو حتى قراءة الوضع الراهن بصورة صحيحة.
إن عامل عدم اليقين موجود في سوق الهيدروجين الأخضر، وأن النجاح الواسع ليس أمرا مسلما به حتى مع نمو قدرات التحليل الكهربائي، بل إن هناك حقائق على الندرة فيما يتعلق بتوافره في المدى القصير وعدم اليقين في المدى البعيد. ويوجد جزء كبير من المشاريع حاليا في مراحل تخطيط متقدمة لكن عددا قليلا فقط قيد الإنشاء أو وصل إلى قرار الاستثمار النهائي، ومن أهم الأسباب الرئيسة: عدم اليقين بشأن الطلب والافتقار إلى الأطر التنظيمية وغياب البنية التحتية لايصال الهيدروجين إلى المستخدمين النهائيين. وبالطبع يلعب عامل عدم اليقين في ظهور علامات استفهام حول مدى جدية سوقه خلال الأعوام المقبلة، ولذلك يواجه مطورو المشاريع والمستثمرون أيضا درجة عالية من عدم اليقين في الأسواق الناشئة، ولذا يتعين على الحكومات تنفيذ سياسات تجارية محددة ومستهدفات واضحة للهيدروجين، والتي تعد ضرورية لتطوير ناجح للمشاريع. ومع ذلك، فإن سوقه تحمل فرصا استثمارية واعدة، خصوصا في دول الاتحاد الأوروبي واليابان التي تسير نحو الهيدروجين الأخضر، خصوصا أن عدد مشاريعه (تحت الإنشاء) فاق مئات المشاريع حول العالم. ونرى إمكانية منافسة ضد الرمادي في المناطق التي تتمتع بموارد متجددة جيدة، الاشعاع الشمسي أو سرعة الرياح.
لقد برز مفهوم مزيج الطاقة في تخطيط منظومة الطاقة، الذي يشير إلى كيفية تقسيم الاستهلاك النهائي للطاقة في منطقة جغرافية معينة حسب مصدر الطاقة الأساسي. ويشمل الوقود الأحفوري (النفط والغاز الطبيعي والفحم) والطاقة النووية والنفايات وأنواع عديدة من الطاقة المتجددة (الكتلة الحيوية وطاقة الرياح والطاقة الحرارية الأرضية والطاقة الكهرومائية والطاقة الشمسية بشقيها الكهروضوئي والحراري). ولو أردنا إسقاط مفهوم مزيج الطاقة على صناعة الهيدروجين، يتكون لدينا مفهوم جديد يدعى مزيج الهيدروجين Hydrogen Mix الذي يعد سبقا صحافيا لـ «الاقتصادية» في إطلاقه بحلته الاستراتيجية. إن مفهوم مزيج الهيدروجين يعد محورا جديدا في تخطيط إنتاج الهيدروجين، وهو عبارة عن مجموعة من ألوان الهيدروجين المختلفة سواء الرمادي أو الأزرق أو الأخضر أو الوردي، وعليه يرتكز مزيج الهيدروجين على عناصر التنمية المستدامة: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وسيكفل مزيج الهيدروجين في استدامة الصناعة، بحيث يتم التخطيط لإنتاج الهيدروجين حسب القدرات والمتوافر منه وتكلفته والظروف الاجتماعية والبيئية للبلد، تماما مثل مزيج الطاقة. ومن المتوقع أن يسيطر الهيدروجين الرمادي في المدى القريب، على أن يبدأ الانخفاض تدريجيا مع إحلال الهيدروجين الأزرق والأخضر والوردي (بصور أقل) مكانه، لكن لا يتوقع على أي حال أن يتم التخلي نهائيا عن الهيدروجين الرمادي في المدى البعيد.
لا يزال السباق والمنافسة بين دول العالم محموما في بناء قدرات إنتاج الهيدروجين الأزرق والأخضر. وعلى الرغم من درجة عدم اليقين من جراء تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر أو الطلب أو غيرهما في الوقت الراهن، إلا أن المستقبل يبشر بالتوجه الإيجابي إذا تضافرت الجهود العالمية، خصوصا في مجال البحث والتطوير، مع الإشارة إلى أن سياسة طاقة الهيدروجين يجب أن تكون واقعية ذات خريطة طريق محكمة، ومستهدفات قابلة للقياس والتنفيذ في سبيل الوصول إلى صناعة مستدامة لطاقة الهيدروجين.
إن إعلان السياسة وحدها ليس كافيا إلا مع التنفيذ والمتابعة، بل نرى من الضرورة رفع الطموحات لصنع الطلب على الهيدروجين بصورة عامة في الصناعات الرئيسة، والعمل على دراسة الفرص المتاحة وتعظيمها واستغلالها في إنشاء البنية التحتية للهيدروجين. ولا بد من مراجعة الأطر التنظيمية لأن بعضها قد يكون عائقا لأي استثمار حقيقي في إنتاجه وتتطلب إزالته.
وأخيرا، يعد التعاون الدولي أمرا حيويا بكل تأكيد لتسهيل المواءمة وتخفيف أو تقليل حدة الحواجز التي يمكن أن تبطئ تطور سوق الهيدروجين في المنظور العالمي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي