المصالح الاقتصادية أم الأجندة السياسية؟
تعد العلاقات بين واشنطن وبكين مزيجا معقدا وشبكة متعددة الأطراف ما بين التعاون والمنافسة والتحدي، فبعد نهاية الحرب الباردة ظهرت الصين كقوة صاعدة خاصة في المجال الاقتصادي، وأصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي، كما أنها أصبحت عضوا دائما في مجلس أمن الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وإبيك وبريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة العشرين، كما تمتلك الصين ترسانة نووية، ولديها جيش هو الأكبر في العالم وثاني أكبر ميزانية دفاع.
وفي الجانب الآخر، تحاول واشنطن المحافظة على مكانتها العالمية المتفوقة عسكريا دون أي منازع لها، كما ترى بكين من جانبها أن واشنطن تخطط لاحتوائها اقتصاديا من خلال استراتيجياتها للوصول إلى أهدافها ومصالحها عالميا، لذا تحاول الصين تغيير الهيمنة والسيطرة الأمريكية على العالم، وتتميز سياستها بالصعود السلمي الذي يقلق أمريكا، علما أن الأخيرة تعد واحدة من أكثر الدول التي استخدمت السياسة الحمائية مع شركائها التجاريين.
وإزاء هذا الوضع، فإن إشعال حرب تجارية بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم ليس بالأمر الهين.
ورغم أن كلا الطرفين -لا مناص- سيتجرع ويلات هذا الصراع، فإنه من المؤكد أن هناك أطرافا أخرى ستعاني الأمرين جراء مواجهة تكسير العظام تلك.
ومن الواضح خلال الفترة الماضية، أن كلا من الولايات المتحدة والصين تريد احتواء ما أمكن من خلافات، والإبقاء على قنوات الاتصال بينهما مفتوحة، بصرف النظر عن أي تداعيات في العلاقات حول هذه المسألة أو تلك. فالمشكلات العالقة بين أكبر اقتصادين في العالم متعددة، ولا سيما على صعيد النفوذ الدولي، والمشكلة الأساسية الأهم بالنسبة إلى بكين هي تايوان، فضلا عن سلسلة لا تتوقف من الخلافات التي ترقى إلى مستويات المشكلات المتعلقة بالتوجه السياسي العام. والتوتر في العلاقة بين بكين وواشنطن ليس جديدا، ووصل إلى أعلى مستويات من الخطورة في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي قطع معظم قنوات الاتصال مع الصين على مدى أربعة أعوام.
وبوصول جو بايدن، لم تتحسن هذه العلاقات على عكس ما كانت الصين تعتقد، بوجود إدارة أكثر هدوءا في علاقاتها الدولية.
الآن تتحرك واشنطن بمرونة أكبر على صعيد "ترميم" العلاقات مع بكين، بعد فترة من التوترات أدت حتى إلى تحركات عسكرية في شبه جزيرة تايوان، وإلى مواجهات سياسية عنيفة. كما أن المسؤولين الصينيين يعتقدون بضرورة أن تأخذ العلاقات شكلا يسهم على المدى المتوسط في الوصول إلى أرضية مشتركة، تضمن على الأقل استمرار التواصل على مستويات عليا، وفتح الملفات المهمة للنقاش حتى للتفاوض. فالخلافات متعددة وعميقة. ولا شك أن زيارة أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكية قبل أسابيع للصين، وتلتها زيارة مهمة جدا لجانيت يلين وزيرة الخزانة، أسهمتا في تمهيد الطريق لإطلاق اتصالات وتمكين قنوات الاتصال الموجودة أصلا أكثر مما هي عليه الآن. فزيارة بلينكن هي الأولى من نوعها لمسؤول أمريكي على هذا المستوى للصين منذ أكثر من خمسة أعوام، ما يعني بأن الحراك بين الطرفين يحظى بطاقة متصاعدة.
وأخيرا الزيارة الحالية لوزيرة التجارة الأمريكية إلى الصين لتخفيف حدة التوتر الاقتصادي والسياسي بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم. ولكن جرى خلال هذه الزيارة بعض التراشق المعتاد، إذ حذرت واشنطن من بيئة محفوفة بالمخاطر للشركات الأمريكية في الصين، فيما ردت بكين بأن تسييس القضايا التجارية وتوسيع نطاق مفهوم الأمن بشكل كبير كارثي على الاقتصاد.
الإدارة الأمريكية ترى (كما الحكومة الصينية) أن العلاقات المتوترة بين قطبي الاقتصاد العالمي لها انعكاساتها السلبية على الدول والاقتصادات وعلى التجارة العالمية.
ولأن الأمر كذلك، استبعدت جانيت يلين أخيرا إمكانية فك الارتباط الصيني الأمريكي، على أساس أن ذلك "سيكون مستحيلا"، فكلا الاقتصادين مرتبطان بالفعل بصورة كبيرة للغاية، وكل تفاهم بينهما يعزز الوضع على الساحة الدولية، ولا سيما في الفترة الصعبة الحالية التي يمر بها الاقتصاد العالمي.
وإذا كان بالإمكان تخفيف حدة التوتر الاقتصادي بين الطرفين عن طريق تفاهمات -وإن كانت ليست مستدامة- فالأمر سيبقى معقدا في مسألة الخلافات الجيوسياسية، والأزمة المستمرة بشأن جزيرة تايوان، التي تمثل في نظر البعض قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت. وهذا يتطلب تحركا لا ينقطع لتخفيف المخاطر الناجمة عنها.
لن تهدأ العلاقات الأمريكية الصينية في المرحلة المقبلة. لكن بلا شك يسعى الطرفان إلى توسيع قنوات الاتصال فيما بينهما، فمطالبات كل طرف من الطرف الآخر لا تنتهي، بما في ذلك اتهامات واشنطن لبكين بغياب الشفافية التجارية والإنتاجية، فضلا عن عدم وجود فرض متكافئة. لكن مثل هذه الملفات يمكن أن تحل عبر تفاهمات لن تكون سهلة، وتتطلب وقتا طويلا سيظل يؤثر سلبا في العلاقات بين الطرفين. لكن أكثر ما يدعم التوجهات الإيجابية على صعيد الحراك السياسي الحالي بينهما، أن واشنطن وبكين حريصتان الآن أكثر من أي وقت مضى على الوصول إلى مستويات من التفاهم ليس بالضرورة أن تكون مرتفعة، لكنها ضرورية جدا، وهذه الأجواء لم تكن موجودة (مثلا) في ظل إدارة الرئيس السابق ترمب، الذي اتخذ مواقف متطرفة للغاية تجاه الصين، نشرت الخوف من مواجهة عسكرية حقيقية.