منغوليا .. جغرافيا معقدة وثروات كامنة وتنافس صيني - روسي

منغوليا .. جغرافيا معقدة وثروات كامنة وتنافس صيني - روسي
منغوليا .. جغرافيا معقدة وثروات كامنة وتنافس صيني - روسي

"منغوليا" أرض مترامية الأطراف تمتد على مرمى البصر، عند تجولك فيها ينتابك شعور بأنك مهما طويت من أرضها فإنها لا تنتهي. منغوليا التي تزيد مساحتها على مساحة المملكة المتحدة سبع مرات، لا تمتلك من الطرق إلا نحو 2 في المائة من إجمالي الطرق الموجودة في بريطانيا.
أغلب الدولة مساحات شاسعة من الكلأ الجاف المتناثر هنا وهناك، ورياح تهب بلا انقطاع. وفي دولة لا يزال 60 في المائة من سكانها يعيشون في الخيام حيث المدن محدودة، فإن جغرافيتها تشعرك بأنك في مسرح لواحدة من القصص والبطولات الأسطورية. إنها منغوليا أرض جنكيز خان وأحفاده، الذي قضى حياة حافلة كللت بإمبراطورية من أضخم إمبراطوريات التاريخ.
لكن منغوليا التي بادت إمبراطوريتها وغابت إلا من كتب التاريخ، وباتت اليوم دولة مثلها مثل عشرات ومئات الدول حول العالم، لديها لعنة تأبى أن تفارقها، إنها لعنة الموقع الجغرافي. تلك اللعنة لا تعود فقط إلى كونها دولة حبيسة لا تطل على بحار أو محيطات، ولا تمتلك أي شاطئ يسمح لسكانها بالاستمتاع بمياه البحر، ولا حتى ما يعنيه ذلك من استحالة أن تكون لها أساطيل وتجارة بحرية ذات ملامح عالمية أو إقليمية تصب في مصلحة تعزيز قوتها الاقتصادية.
لعنة منغوليا الجغرافية أكثر تعقيدا وأشد وطأة من ذلك، إنها تقع بين المطرقة الصينية والسندان الروسي، فبين هذين العملاقين تقف منغوليا تحاول جاهدة التنفس واتخاذ قرارها الاقتصادي المستقل، بالطبع تنجح أحيانا وتفشل أحيانا أخرى، فمنغوليا دولة تقف دائما على حد السكين، وعليها أن تزن دائما جميع قراراتها الاقتصادية والسياسية بميزان من ذهب حتى لا يغضب عليها أحد العملاقين، فيصب عليها لعنته مرة وإلى الأبد.
كيف تحاول منغوليا الانعتاق من لعنة الموقع الجغرافي؟ هل تنجح في ذلك؟ أم أنها تعرف الخطوط الحمر التي لا يجب تجاوزها في دعم علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة حتى لا تغضب العملاقين الروسي والصيني في وقت تتزايد فيه الاحتكاكات الجيو سياسية بينهما وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لكن ما الذي يشجع منغوليا الآن على الانعتاق من محبسها الجغرافي؟
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور جي. إم براين أستاذ الجغرافيا الاقتصادية في جامعة أكسفورد "ابحث أولا عن المعادن. تستحوذ احتياطيات منغوليا المعدنية على اهتمام متزايد على الساحة العالمية، وهي تعتمد على استيراد الكهرباء والوقود وعديد من السلع الأخرى من الصين، كما أنها تبيع معظم إنتاجها المعدني للصين. الآن تسعى إلى فتح أسواق جديدة، بل إنها ترى أن موقعها الجغرافي قد يمثل فرصة ذهبية الآن للحصول على مزيد من الاهتمام والمساعدات الاقتصادية من الولايات المتحدة وأوروبا".
لكن مغازلة الولايات المتحدة في وقت تتصاعد فيه حدة التوترات بين بكين وواشنطن، وتمويل واشنطن حربا مفتوحة ضد موسكو في أوكرانيا تحمل في طياتها مخاطرة قد لا تحمد عقباها مستقبلا على منغوليا، حيث يظل في الذاكرة استعداد الصين عام 2016 لمعاقبة منغوليا بعد أن رحبت بزيارة الدالاي لاما الزعيم الروحي للتبت، فرفعت الرسوم على منتجات التعدين القادمة من أرض جنكيز خان، وزادت من المتطلبات البيروقراطية على المعابر الحدودية بين البلدين، بطريقة أقرب إلى إغلاق الحدود بينهما، ما أدى إلى إعاقة عملية نقل السلع بين البلدين.
لكن الدكتور جي. إم براين يقول "خطر نقص المعادن مثل النحاس المستخدم في بطاريات السيارات الكهربائية، وأنظمة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يساعد على تقارب الولايات المتحدة ومنغوليا، خاصة في ظل القلق الأمريكي المتزايد بشأن هيمنة الصين على المواد المستخدمة في إنتاج الطاقة النظيفة، يضاف إلى ذلك أن التقديرات تشير إلى غنى منغوليا باليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة، ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على المعادن المهمة بما في ذلك العناصر الأرضية النادرة والليثيوم والكوبالت بنسبة تصل إلى 600 في المائة خلال العقد المقبل".
ويضيف "الناتج المحلي الإجمالي لمنغوليا قد يتضاعف ثلاث مرات بحلول نهاية العقد المقبل، فهناك منجم النحاس العملاق أويو تولجوي الذي يقع وسط صحراء جوبي، والمنجم يقع فوق أحد أكبر احتياطيات النحاس والذهب في العالم".
مع هذا فاختراق منغوليا للحدود الجغرافية التي تعانيها لا يعد يسيرا، فالجار الصيني يراقب من كثب التحركات الاقتصادية بين منغوليا والولايات المتحدة، كما أن واشنطن لا تبدي حتى الآن اندفاعا كبيرا لوضع يدها على ثروات منغوليا المعدنية، فتقديرات الحكومة المنغولية لحجم تلك الثروة في حاجة إلى تدقيق وفحص من شركات المعادن الدولية لمعرفة مدى دقة تلك التقديرات.
من جانب آخر تفتقد البلاد بنية تحتية حديثة تساعد على تعظيم استخراج المعادن وتصديرها، إضافة إلى الطابع البيروقراطي للإدارة في منغوليا والموروث عن أعوام من الحكم الشيوعي المرتبط ارتباطا وثيقا بالاتحاد السوفياتي السابق.
لكن هناك معوقات أخرى يجب أخذها في الحسبان. تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة فكتوريا هاورد أستاذة الجيولوجيا في جامعة لندن "الأكثر أهمية أن تكاليف النقل المرتفعة تجعل معظم إنتاج البلاد من المعادن غير قادر على المنافسة في الأسواق الدولية إذا تم تصديره عبر طرق أخرى غير الصين، فموانئ المحيط الهادئ الروسية تقع على بعد أربعة آلاف كيلومتر من مناطق إنتاج الفحم والنحاس في صحراء جوبي الجنوبية في منغوليا، بينما تبعد الحدود الصينية أقل من 300 كيلومتر عن مناجم منغوليا، وفي بعض المناطق لا تبعد الصين سوى 40 كيلومترا فقط، وحتى مناجم الفحم التي تقع في شمال منغوليا وهي الأقرب إلى روسيا، فإن تكلفة النقل ورسوم الشحن عبر الموانئ الروسية على ساحل المحيط الهادئ تجعل مبيعات الفحم الحراري باهظة التكلفة، وبعض أنواع الفحم مثل فحم الكوك لن تفلح في منافسة الفحم الأسترالي مثلا في أسواق شرق آسيا المتعطشة إلى الطاقة".
تجعل الجغرافيا علاقة الصين مع منغوليا علاقة يصعب الفكاك منها، أقرب ما تكون إلى الزواج الكاثوليكي حيث لا يوجد طلاق بين الشريكين، حيث إن 80 في المائة من صادرات منغوليا تذهب إلى الصين، و60 في المائة من وارداتها تأتي من هناك، و40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي يعتمد على الصين، وعندما أصيبت الصين بالسعال نتيجة وباء كورونا كادت منغوليا أن تختنق، فتراجع الاقتصاد عام 2021 بنحو 4.4 في المائة وبلغت البطالة نحو 8.8 في المائة، وفي عام 2022 انخفضت عائدات التعدين في أول العام بنسبة 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتتفوق البصمة الاقتصادية الصينية على نظيرتها الروسية في منغوليا، مع هذا لا يجب الاستهانة بدور روسيا في التأثير في الاقتصاد المنغولي خاصة في المستقبل ومع استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا.
تشترى منغوليا الكهرباء من روسيا، ما يجعل ملف الطاقة من الملفات الحيوية بين البلدين، وقد عارضت روسيا بناء منغوليا سدا ومحطة توليد طاقة كهرومائية على طول نهر أولدا، بدعوى أن ذلك سيؤثر سلبا في بحيرة بايكال التي تقع على الجانب الروسي من الحدود، وبينما احتجت روسيا على المشروع لأسباب بيئية، فإن منغوليا تعتقد أن السبب الحقيقي وراء معارضة موسكو يكمن في رغبتها في إبقاء منغوليا تحت السيطرة.
تستورد منغوليا 28 في المائة من سلعها من روسيا، وتعتمد بشكل كامل على المنتجات البترولية الروسية، ومع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية والعقوبات الدولية تأثر الاقتصاد في منغوليا بالتضخم العالمي، وزيادة تكاليف النقل واضطراب سلاسل التوريد، ونمت قيمة الواردات البترولية بنحو 52 في المائة العام الماضي، وتأثر احتياطي البلاد من النقد الأجنبي بذلك، بنسبة تقارب 8 في المائة، وانخفضت قيمة العملة المحلية التوجروج بنحو 20 في المائة.
ويعتقد اليكس دين الخبير الاستثماري أن استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية والعقوبات الغربية على موسكو، سيحدث تغيرا في الأمد الطويل في العلاقة بين روسيا ومنغوليا التي ستشهد مزيدا من المنافسة بين البلدين، ما قد يدفع بمنغوليا إلى مزيد من التقارب مع الولايات المتحدة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إنه قبل الحرب الروسية - الأوكرانية كان الاتجاه العام للتجارة الروسية يسير في اتجاه استهداف الأسواق الغربية خاصة في موارد الطاقة مثل الفحم والنفط والغاز، وكذلك في المعادن مثل النحاس، الآن المشهد يتغير، فروسيا تستهدف الأسواق الصينية وتخصص مزيدا من الموارد لتشيد شبكة من البنية التحتية لتيسير تجارتها مع الصين، وهذا سيوجد منافسة بينها وبين منغوليا لاستهداف الأسواق الصينية، فعلى سبيل المثال حصة روسيا ومنغوليا في إجمالي واردات الصين من الفحم في عام 2021 كانت نحو 19 و11 في المائة على التوالي، ومن ثم احتمالية سعي روسيا لزيادة صادراتها إلى الصين سيصعد من حدة المنافسة مع منغوليا، وهذا قد يدفع بمنغوليا إلى البحث عن أسواق بديلة ربما تكون الولايات المتحدة وحلفاءها".
تبحث منغوليا عن مزيد من العلاقات المربحة مع الولايات المتحدة ضمن ما يعرف في الأدبيات السياسية بالبحث عن "جار ثالث" في محاولة للانعتاق من لعنة الجغرافيا التي تجعلها مطوقة بروسيا والصين دون أن تكون لها أي منافذ بحرية، إلا أن خطوات منغوليا لا بد أن تتسم بالحذر الشديد والتريث، فمسعى الحكومة المنغولية لتحسين الأوضاع الاقتصادية لشعبها وتنويع علاقاتها الاقتصادية الدولية مسعى مشروع لا جدال فيه، لكنه قد يتحول إلى لعنة تضاف إلى لعنة الجغرافيا إذا غضب العملاقان الروسي والصيني عليها في وقت تهيمن فيه التوترات والاحتكاكات العنيفة على المناخ الدولي سياسيا واقتصاديا.

الأكثر قراءة