الابتكار المالي .. الهند تعتلي الصدارة
عندما أعلن ناريندرا مودي "فجر الهند الجديدة" الأسبوع الماضي، كان رئيس الوزراء يشيد بأول هبوط لبلاده على سطح القمر. لكن هذا التصريح ربما كان له علاقة بالقدر نفسه بثقة الهند المتزايدة بصدارة الابتكار المالي.
لأعوام، اتبع مودي سياسات تهدف إلى إصلاح النظام المالي الذي كان منذ وقت ليس ببعيد قديم الطراز ويعتمد في الغالب على النقد، فضلا عن الفوضى. وهذا ما جعل الاحتيال والرشوة والتهرب الضريبي أمورا سهلة ومتوطنة.
كان قراره في 2016 بسحب الأوراق النقدية عالية القيمة من التداول دون أي إشعار تقريبا مثيرا للجدل وتسبب في اضطراب كبير لعدة أشهر. لكن إلى جانب تطوير نظام الهوية الرقمية العالمية "آداهار" والدفع لتطوير بنية التمويل الرقمي في الوقت الحقيقي "واجهة المدفوعات الموحدة" UPI على إثره، ليس هناك شك أن النظام المالي في الهند قد تغير جذريا.
خلص تقرير لشركة برايس ووترهاوس كوبرز بعد عامين من مبادرة سحب النقود، إلى أن عدد دافعي الضرائب وتحصيلات الضرائب المباشرة شهدا نموا كبيرا، 10 و19 في المائة على التوالي. انتشرت المدفوعات الفورية من النوع الذي تسهله شبكة UPI منخفضة التكلفة. وفقا لشركة إيه سي أي ورلد وايد لمعالجة المدفوعات الإلكترونية، عالجت الهند ما يقارب 90 مليار معاملة في العام الماضي، أكثر من أي مكان في العالم، وبزيادة قدرها 77 في المائة عن العام الذي سبقه. وهذا يفوق أمثال الولايات المتحدة (2.8 مليار) والصين (17.6 مليار). (على أساس نصيب الفرد، تحتل المرتبة السابعة، متفوقة على معظم الدول المتقدمة، ومن ضمنها المملكة المتحدة).
تعرض نظام الهوية الرقمية العالمية "آداهار" الذي وفر الأساس لنشر واجهة المدفوعات الموحدة لانتقادات بسبب زيادة تهميش أقلية من الهنود. لكن 1.3 مليار هندي، بمن فيهم 99 في المائة من البالغين، أصبحوا الآن جزءا منه. يعتقد ديليب أسبي، الذي يرأس ناشونال بيمنتس كوربوريشن، المنظمة التي تقف وراء واجهة المدفوعات الموحدة، أن 350 مليون شخص يستخدمون الآن النظام للمدفوعات، وهو رقم سيستمر في الازدياد مع انتشار استخدام الهواتف الذكية وشبكات 5G وتوسيع الخدمات لتشمل الائتمان والاستثمارات أيضا علاوة على المدفوعات.
ولمواجهة من تخلفوا عن الركب، خاصة في المناطق الريفية، كشفت الهند هذا الشهر عن مبادرة للسماح بمعالجة المعاملات الصوتية. وفي المناطق التي لا يتوافر فيها اتصال بالإنترنت أو يكون الاتصال ضعيفا، ستكون التحويلات من هاتف إلى آخر بديلا قابلا للتطبيق.
لدى نظام واجهة المدفوعات الموحدة إمكانات دولية أيضا. التحويلات في الوقت الفعلي باستخدام الشبكة ممكنة بالفعل مع سنغافورة، وستنشئ رابطا مشابها في الأشهر المقبلة، وفقا لآسبي. ومن شأن الروابط مع المواقع الخارجية التي يعيش فيها الهنود أو يسافرون إليها أن تحسن كفاءة التحويلات المالية وتكلفتها إلى الأسر في الوطن إضافة إلى تعزيز اقتصاد السياحة.
كل هذا ليس سوى جزء واحد من التحول المالي الرقمي في الهند. تستكشف الدولة أيضا إمكانات استخدام عملة رقمية للبنك المركزي. هذه المبادرة التي تعززت بفعل أحداث عالمية أوسع نطاقا ـ صعود الصين وطموحات بكين فيما يتعلق بالرنمينبي، والتحدي الذي تفرضه العملات المشفرة الناشئة، وربما الأهم من ذلك كله هو استخدام الدولار ونظام الدفع العالمي كسلاح من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين كوسيلة لمعاقبة روسيا.
تعد الهند من بين الدول الأكثر تقدما في مشروع العملات الرقمية للبنك المركزي. بدأ المشروع التجريبي في أواخر العام الماضي وتم توسيعه منذ ذلك الحين ليشمل 13 بنكا في 26 موقعا، مقارنة بأربعة بنوك في أربع مدن في البداية. ويعتقد بعض الخبراء أن الروبية الرقمية قد يتم إطلاقها بالكامل في العام المقبل. تضمن المشروع التجريبي دمجه مع نظام واجهة المدفوعات الموحدة، لكي يتمكن التجار من قبول مدفوعات الروبية الرقمية باستخدام رمز الاستجابة السريعة نفسه الموجود لديهم بالفعل لمعاملات واجهة المدفوعات الموحدة.
يعتقد إصلاحيون أن الروبية الرقمية توفر فرصة كبيرة لتعزيز كفاءة مدفوعات الأفراد والمؤسسات المالية. وتشكل الإمكانات الدولية أهمية كبيرة أيضا، إذا تمكن البنك المركزي من الاتفاق على ترتيبات مبادلة ثنائية أو متعددة الأطراف مع نظرائه في الخارج.
في قمة بريكس التي انعقدت الأسبوع الماضي، كان الرئيس البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا يضغط من أجل إصدار عملة جديدة لمجموعة بريكس. حتى زملاؤه من رؤساء الدول لم يؤكدوا على هذه الدعوة، ولا يتوقع أحد أن يتم تقويض الدولار في أي وقت قريب بوصفه عملة مشتركة للتمويل العالمي. لكن المبادرات الرقمية كتلك التي الموجودة في الهند، إلى جانب التحالفات القوية مع الدول التي لا تشعر بالارتياح تجاه سيادة العملة الأمريكية، من الممكن أن تسهم في عملية تدريجية لتفكيك هيمنة الدولار والاكتفاء الذاتي بين الاقتصادات الأسرع نموا في العالم.