إصلاحات التجارة بحوكمة اقتصادية
ازدادت خلال الفترة الأخيرة وتيرة التوجه نحو تحرير قطاع التجارة الخارجية، خاصة بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية، التي اطلعت بمهمة تنظيم وتأطير العلاقات التجارية الدولية، حيث إن هذه المنظمة لديها أحكام خاصة بالدول النامية، حديثة الانضمام إليها، وتقدم لها المشورة والمساعدة لتخطي الاختلالات التي تصيب اقتصاداتها، خاصة ما تعلق منها بميزان المدفوعات، وخاصة قسم الميزان التجاري منه. ومن هنا ببلوغ عدد أعضاء المنظمة العالمية للتجارة 153 عضوا، واستئثارهم بالقسم الأكبر من التجارة الدولية، أصبح الانضمام إليها حتمية، من أجل الاستفادة من المزايا والحقوق المتاحة داخلها.
وعلى هذا الصعيد، يستمر النقاش والجدال والحوار حول الرؤى حول إصلاحات منظمة التجارة العالمية، الذي استمر طويلا بين الأطراف العالمية المعنية بتطوير هذا الاتجاه، وقد كانت هذا القضية نقطة محورية في أعمال مجموعة العشرين تسيطر على أكثر من 90 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، و80 في المائة من التجارة العالمية، ويعيش فيها ثلثا سكان العالم على هامش اجتماع لوزراء تجارة دول مجموعة العشرين في راجاستان غربي الهند.
وعلى الرغم من أن هذا الموضوع يمثل نقطة محورية، فإن قراره سيتخذه القادة الذي سيجتمعون في نيودلهي نهاية العام، وهو الذي سيحدد مصير إصلاحات منظمة التجارة العالمية، وهذه المسألة ليست بجديدة، والجدل حولها قديم قدم المنظمة نفسها، بل حتى في المراحل السابقة لها عندما كانت اتفاقية الجات، فالتحديات التي تواجه النظام التجاري المتعدد الأطراف موضوع شائك، ويمس قضايا مهمة سياسية واجتماعية واقتصادية للدول، وتتركز أهم التحديات من منظور المنظمة نفسها والمشكلات المتعلقة ببدء الاتفاقيات التجارية والتفاوض بشأنها وإبرامها، وكذلك الحاجة إلى تعزيز عمل الهيئات واللجان العادية لمنظمة التجارة العالمية، وكذلك تعزيز ضوابط الإبلاغ والشفافية بموجب الاتفاقيات القائمة، وما إذا كانت أحكام المعاملة الخاصة والتفضيلية الحالية للبلدان النامية وأقل الدول نموا كافية أو فعالة، وهناك قضايا تتعلق بأداء نظام تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، كما تواجه المنظمة مشكلات تتعلق بتعيين أعضاء جدد في هيئة الاستئناف، وهذه المسألة الأخيرة تجد اعتراضات دائمة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى أنها لن توافق على عمليات الاختيار لملء الشواغر في هيئة الاستئناف حتى تتم معالجة مخاوفها النظامية بشأن نظام تسوية المنازعات في المنظمة العالمية، وهيئة الاستئناف فيها، وهي الهيئة المختصة بالبت في النزاعات التجارية الدولية الكبرى، إلا أن الموضوع ظل معلقا والمنظمة بلا هيئة، وللتغلب على هذه المشكلة، تم ترتيب استئناف مؤقت متعدد الأطراف، لذلك فإن عديدا من الأطراف يرون أن الإصلاحات المقترحة يجب أن تعمل على إيجاد منظومة لتسوية النزاعات تكون فعالة ومتاحة لجميع الدول الأعضاء بحلول 2024، لذلك فإن نتائج اجتماع راجاستان الأخير في الهند والدعوة المنتظرة إلى تحسين طريقة عمل المنظمة في تعزيز الثقة بالنظام التجاري متعدد الأطراف، يعيد الأمل في معالجة المشكلة الراهنة.
المسألة الثانية المتعلقة بالامتثال لضوابط الإبلاغ والشفافية، وهذه المسألة لا تقل تعقيدا عن سابقتها، وتعاني المنظمة ما تم الاصطلاح عليه بالمستوى المنخفض "المزمن" للامتثال لهذه المتطلبات الحالية، خاصة فيما يتعلق بالإبلاغ، المتعلقة بالإعانات الزراعية والصناعية، وهذه المشكلة قديمة قدم المنظمة نفسها والاستجابة لم تزل ضعيفة، وتختلف المشكلة من دولة إلى أخرى، فمن جانب تعد مشكلة إرادة سياسية، فبعض الدول لا ترغب في مثل هذا الإفصاح وبعض الدول تواجه مشكلة قدرات وليست إرادة سياسية، فالدول الأكثر فقرا تمنعها من الوفاء معوقات مالية وإدارية فقط.
المشكلة الثالثة تتعلق بمسألة ما إذا كانت أحكام المعاملة الخاصة والتفضيلية الحالية للدول النامية وأقل البلدان نموا كافية أو فعالة، والاعتراض الرئيس هو في أن الدول هي التي تعلن أنها بلد نام أم لا، وإذا كانت قواعد المنظمة تفرض أحكام المعاملة الخاصة والتفضيلية للدول النامية ومن بينها فترات التنفيذ الأطول للامتثال لالتزاماتها، ومرونة الالتزامات، والعمل واستخدام أدوات السياسة، والحصول على المساعدة الفنية، فلا شك أن أكثر من ثلثي أعضاء هذه المنظمة قد حددوا دولهم بأنها دول نامية أو تم تصنيفهم على أنهم أقلها نموا بما يتماشى مع معايير الأمم المتحدة، لذلك نشأت الأسئلة بشأن أحكام المعاملة الخاصة والتفضيلية الحالية للدول النامية والحاجة إلى اصلاح هذا الموضوع. وتعد الولايات المتحدة أكثر المنتقدين لهذه الأحكام، وطالبت باستبعاد جميع أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وجميع أعضاء مجموعة العشرين وجميع الأعضاء، الذين يصنفهم البنك الدولي على أنهم "ذو دخل مرتفع" من إعلان أنفسهم كدولة نامية، لكن المسألة ليست بالدخل فقط، وفي مقابل ذلك أكدت المجموعة الإفريقية والصين والهند وعديد من الدول الأخرى التأكيد على مبادئ استمرار حق البلدان النامية غير المشروط في المعاملة الخاصة والتفاضلية في قواعد ومفاوضات منظمة التجارة العالمية، والحق في التعيين الذاتي، ودعم المعاملة الخاصة والتفاضلية الحالية. لذلك، فإن هذه المشكلة تظل الأصعب في ظل الأوضاع الحالية من الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين خاصة، ودون مرونة وحلول إبداعية، فلن يتم إصلاح المنظمة في هذا الشأن في الوقت الراهن.
كل هذه المشكلات القائمة في منظمة التجارة العالمية تؤكد أنها تتعلق بقضايا الحوكمة الاقتصادية، ولن تحل بشكل جذري قريبا، ما لم يتم إرساء قواعد عالمية للحوكمة الاقتصادية وتقييم الدولة في مدى مصداقيتها في ترتيب أمورها الداخلية، وهذا يتطلب إنشاء منظمة دولية للحوكمة الاقتصادية، التي من خلالها يتم وضع قواعد ملزمة واختيارية، ولا يمكن قبول عضوية الدول في أي منظمة من منظمات الأمم المتحدة ما لم تلتزم بالحد الأدنى من القواعد الملزمة، وفي حال تم ذلك يمكن المضي قدما في عملية شاملة لإصلاح المنظمة العالمية.