رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عصر التكتلات وصنع القرارات

برزت مجموعة "بريكس" كمنظمة سياسية بدأت المفاوضات لتشكيلها في 2006 وعقدت أول مؤتمر قمة لها في 2009، وكان أعضاؤها هم الدول ذات الاقتصادات الصاعدة، وهي: البرازيل، روسيا، الهند، والصين تحت مسمى "بريك" أولا، ثم انضمت جنوب إفريقيا إلى المنظمة 2010 ليصبح اسمها "بريكس".
وهذه المجموعة ليست منظمة دولية متعددة الأطراف رسمية مثل الأمم المتحدة أو البنك الدولي أو منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك"، ويجتمع رؤساء الدول والحكومات في الدول الأعضاء سنويا مع تولي كل دولة رئاسة المجموعة لمدة عام بالتناوب.
وتضم الدول الخمس نصف سكان العالم، وتهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري بين الدول الأعضاء وتنسيق المواقف في القضايا العالمية والإقليمية وتعزيز التنمية المستدامة، وتشكل المجموعة رقما كبيرا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتعد قوة اقتصادية صاعدة وتسعى إلى إصلاح النظام المالي العالمي وتعزيز دورها في صنع القرار الدولي.
ويرى محللون اقتصاديون أن هدف هذه المجموعة بطريقة غير مباشرة هو منافسة مجموعة السبع التي تمثل 60 في المائة من الثروة العالمية، وقد أخذت هذه المجموعة اهتماما أكبر من السابق بعد الحرب الأوكرانية والتشتت الحاصل في النظام العالمي والاتجاه نحو تكتلات جيو- سياسية وجيو- اقتصادية أو جيو- استراتيجية.
كما تطور أيضا أولا وأخيرا التعاون فيما بينها ودعم السلام والأمن والتنمية الاقتصادية في العالم، خصوصا أن بينها الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والهند الثالثة، ثم روسيا أحد أكبر مصدري الطاقة في العالم، وتعد "بريكس" ثاني أكبر تجمع في العالم بعد منطقة اليورو، وفي حال توسعها ستضم دولا عديدة وسيكون لها ثقل مهم في عالم الطاقة.
وفي هذا الاتجاه أبدت أكثر من 40 دولة في العالم اهتمامها ورغبتها في الانضمام إلى المجموعة، وفقا لما رشح من معلومات في قمة جنوب إفريقيا 2023 أخيرا، وتنظر دول العالم إلى "بريكس" كبديل للهيئات العالمية التي تهيمن عليها القوى الغربية التقليدية وتأمل أن يسهم انضمامها إلى المجموعة في الحصول على فوائد بما في ذلك تمويل التنمية وزيادة التجارة والاستثمار.
وتعد قمة المجموعة التي عقدت في جنوب إفريقيا، الأهم منذ إطلاق تأسيسها، والقمة الـ15 هذه، تشكل وفق كل المعطيات، انطلاقة جديدة أخرى للدول المؤسسة ولمستقبلها عموما، التي وجدت في قمة جوهانسبرج ضرورة دعوة دول إلى الانضمام إليها، من أجل مزيد من القوة والتوسع، وتحقيق الأهداف المعلنة، وعلى رأسها فك هيمنة الدولار على التجارة العالمية، وفتح أسواق جديدة بين الدول الأعضاء تعتمد لاحقا على عملاتها في التبادل التجاري، وهذه النقطة خصوصا، كانت الأساس في الانطلاق قبل 17 عاما، فكثير من الدول باتت تتحرك من أجل تغيير السمة التجارية العالمية الراهنة التي بات سائدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
دعوة كل من المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر وإثيوبيا والأرجنتين وإيران إلى هذا التكتل الذي يعتقد البعض أنه سيكون المنافس الأقوى للاتحاد الأوروبي وتكتلات أخرى تؤكد مجددا أن "بريكس" تأسست من أجل توسيع رقعتها، ووضع معاييرها على الساحة الدولية بحكم أهمية وتأثير الدول المنضوية تحت لوائها، فالشكل الحالي للتكتل يمثل 29 في المائة من الحجم الإجمالي للناتج المحلي العالمي، ويصل مجموع الناتج المحلي للدول الخمس إلى أكثر من 29 تريليون دولار، ما يعزز التوجه نحو مزيد من التوسع المدروس، وضم مزيد من الدول المؤثرة، فالدول الست التي دعيت إلى الانضمام، ستضيف 3.2 تريليون دولار من الناتج المحلي إلى المجموعة، ما يعني وصول القوة الاقتصادية لـ"بريكس" إلى مستويات مرتفعة، إذا ما تمت المصادقة في الدول المشار إليها على الانضمام مطلع 2024.
ورغم هذه الخطوات المهمة، لا تزال هناك تحديات موجودة على الساحة أمام المجموعة، في مقدمتها بالطبع الهيمنة الكبيرة للدولار في التبادل التجاري، فليس سهلا التخفيف من مساحة هذه العملة في فترة زمنية قصيرة، فالدولار يهيمن حاليا على 85 في المائة من مدفوعات التجارة العالمية، ويليه اليورو، وبلغت حصة العملة الأمريكية من التسويات المالية في الشهر الماضي 46 في المائة، وأتت بعدها العملة الأوروبية، يضاف إلى ذلك، أن تغيير نظام المدفوعات يتطلب تحركا متماسكا في المستقبل، يمكن بعدها أن تتمكن من تقليل ثقل الدولار في المعاملات التجارية، خصوصا إذا نجحت في التعامل التجاري فيما بينها بعملاتها المحلية، وهذه النقطة ستكون مقدمة لاعتماد عملة مشتركة (غير الدولار) في التعاملات التجارية لاحقا.
بالطبع هناك عشرات الدول أبدت رغبتها في أن تكون جزءا من هذه المجموعة، وبحسب المسؤولين في جنوب إفريقيا بلغ عددها 40 دولة، من بينها 20 دولة طلبت الانضمام رسميا إلى التكتل الناشئ، وهذا يؤكد أن المسار يمضي قدما، ولكن أيضا لن يكون سريعا، لأن الأرضية الراهنة التي بنيت على الساحة الدولية منذ عقود لا تزال قوية، بصرف النظر عن الملاحظات والانتقادات لها حتى من بعض حلفاء الولايات المتحدة نفسها، كفرنسا التي ترى ضرورة تغيير النظام الاقتصادي العالمي الحالي، وبالتأكيد ستكون أي خطوة للتقليل من هيمنة الدولار مهمة، لأنها ستقلل من تأثير تقلبات العملة الأمريكية أيضا، وهذا أمر يخفف توتر الأوضاع الاقتصادية الدولية عموما.
ومما لا شك فيه أيضا، أن نجاح الخطوات التي تقوم بها "بريكس" حاليا، سيجعل المجموعة إذا ما توسعت وضمت دولا مؤثرة دوليا، قوة أساسية مقابل الهيمنة الغربية الراهنة. قد لا تكون موازية لها، إلا أنها ربما تصل إلى مستوى التوازي في مراحل لاحقة مستحقة.
مرة أخرى، ليس من السهل إنشاء عملات احتياطية متعددة، لكن قد يحدث ذلك في مراحل لاحقة، خصوصا، إذا ما نجحت الجهود ليس فقط على مستوى دول "بريكس" بل على الساحة الأوروبية، لتمكين اليورو أكثر على الساحة الإقليمية الأوروبية والعالمية، وأمام هذه التطورات، تراهن الولايات المتحدة (كما قالت أخيرا) على وجود اختلاف في وجهات النظر بشأن قضايا حاسمة، وبالتالي لن تكون (بحسب واشنطن طبعا) منافسا جيو سياسيا في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي