اقتصاد الرؤية يتجاوز التحديات
يواجه العالم تحديات متنوعة وغير عادية، فالعودة الاقتصادية من بعد الوباء كانت غير متوازنة، فبينما تعاني دول مشكلات تتعلق بالتضخم، تعاني دول أخرى قضايا التمويل والدين وأسعار الفائدة وتقلبات العملة، والسبب في كلا الأمرين واحد وهو عدم أخذ تداعيات الجائحة بشكل جدي من البداية والتعامل معها بطريقة لم تضمن الاستقرار الاقتصادي الشامل، سواء من ناحية استدامة الطلب أو من ناحية سلامة الإمدادات، فيما استطاع الاقتصاد السعودي باستراتيجيات إصلاحية وإجراءات استباقية، تجنب كلا الأمرين الآن، فالمملكة كانت من أوائل الدول التي أدركت خطورة انتشار الوباء وسرعته، لذلك سعت فورا إلى تجنب تبعاته فمنعت الدخول وقيدت السفر، ثم قدمت الدولة حزمة واسعة من الدعم إلى القطاع الخاص من أجل المحافظة على الوظائف، وكان شعار المرحلة تلك هو المحافظة على المكتسبات.
اليوم تشير التقارير الدولية إلى تراجع النمو العالمي من 3.5 في المائة تقريبا 2022 إلى 3.0 في المائة في 2023 و2024، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية الصادرة عن البنوك المركزية لمواجهة التضخم سيؤثر سلبا في النشاط الاقتصادي، ومن المتوقع استمرار التضخم الكلي العالمي مرتفعا رغم تراجعه من ذروته، ولكنه ربما ينمو مجددا حال وقوع مزيد من الصدمات.
هذه هي آفاق الاقتصاد العالمي وفق أحدث تقارير صندوق النقد الدولية، بينما جاءت المؤشرات الاقتصادية للربع الثاني من العام الحالي، لتؤكد أن الاقتصاد السعودي يسير بخطى واثقة متجاوزا كل هذه التهديدات الكلية، فقد نما الاقتصاد 1.1 في المائة خلال الربع الثاني من 2023، مقارنة بالربع الثاني من 2022، وحققت أنشطة الخدمات الحكومية نموا 2.7 في المائة، في حين انخفضت الأنشطة النفطية 4.2 في المائة على أساس سنوي، وهذا يقدم مؤشرا على التحولات التي تحققت في الاقتصاد السعودي، فلم يعد يتأثر سلبا بتقلبات السوق النفطية، فالتنوع بات واضحا في الأرقام الاقتصادية، حيث نمت الإيرادات غير النفطية بمعدل 13 في المائة، ما أسهم بشكل جوهري في تخفيف أثر تقلبات أسعار الخام في الميزانية، وقد سبق وتوقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسعودية 2.9 في المائة في العام الحالي، متجاوزا 3.6 في المائة في 2024، كما توقع صندوق النقد الدولي، أن يظل النمو غير النفطي في السعودية قويا بمتوسط 5 في المائة في 2023.
وفي وقت يعاني فيه العالم التضخم الذي بلغت ذروته في بداية العام مع وصوله إلى معدلات تفوق 8 في المائة، فقد جاء التقرير الذي ناقشه مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ليؤكد تراجع معدلات التضخم في السعودية إلى 2.7 في المائة، بعد أن بلغ 3.4 في المائة في يناير 2023، ثم حقق انخفاضا في الشهر التالي "فبراير" 2023، إذ بلغ 3.0 في المائة، ليصل مع نهاية الربع الثاني 2023 إلى 2.7 في المائة، ويعود الفضل في ذلك إلى القرارات الحصيفة بشأن تثبيت السقف الأعلى لأسعار الوقود التي صدرت بها توجيهات القيادة مع تسارع معدلات التضخم في العالم أجمع، ما منح الاقتصاد السعودي فرصة السيطرة على التضخم ومنع انتقال معدلاته نحو المكونات الأساسية للمعيشة، وهذا يؤكد القدرة الكبيرة للاقتصاد على مواجهة الظروف والتحولات العالمية وتجاوزها دون أن تؤثر في مسيرة النمو وتحقيق مستهدفات الرؤية.
وتعد السيطرة على التضخم مرتكزا أساسيا في مسيرة الاقتصاد السعودي في هذه المرحلة، فالاقتصاد في حالة ازدهار غير مسبوقة، ومع بدء تحقيق جميع مشاريع الرؤية وبرامجها للمستهدفات المخططة، هذا يعني مزيدا من السيولة النقدية في شرايين الاقتصاد، فقد أشار التقرير إلى أن الائتمان الممنوح للقطاع الخاص يتجاوز تريليون ريال وبلغ الاستثمار الأجنبي 8.1 مليار ريال، فيما ارتفعت مصروفات المنافع الاجتماعية لتلبية احتياجات المواطنين 39 في المائة.
مع هذه الأرقام الاقتصادية المميزة والقدرة على التحكم في مستويات الدين العام والتضخم واستمرار خطط التنويع الاقتصادي وتدفق الاستثمارات، جاءت تقارير وكالات التصنيف العالمية إيجابية مع تقدم المملكة في عدد من المؤشرات الدولية، بينما تراجع تصنيف عدد كبير من دول العالم بسبب المشكلات الاقتصادية ومن بينها الولايات المتحدة.
ولا شك أن هذه النتائج الاقتصادية المميزة في ظل الوضع الاقتصادي العالمي الراهن لم تأت إلا من خلال التخطيط الناجح والعمل على تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وهذا الاستقرار السعودي مع نجاح خطط التنويع يقدمان دعما كبيرا للملف السعودي للفوز باستضافة معرض "إكسبو 2030" الذي يستمر من أكتوبر 2030 حتى مارس 2031، وتتنافس في استضافته ثلاث دول هي السعودية وكوريا الجنوبية وإيطاليا، وتأتي الحظوظ السعودية مرتفعة نظرا إلى الاستقرار الاقتصادي الذي أشاد به خبراء صندوق النقد الدولي في آخر تقرير وأكدوا من خلاله أن تنفيذ خطة الإصلاح في ظل رؤية السعودية 2030 لا يزال مستمرا دون معوقات نحو تحقيق اقتصاد منتج وأخضر مع التقدم على صعيد التحول الرقمي، والبيئة التنظيمية والخاصة بالأعمال، وانضمام المرأة إلى القوى العاملة، وزيادة استثمارات القطاع الخاص.
وخلص التقرير إلى أنه قد تم بالفعل تجاوز الأهداف المحددة للرؤية، ومع وجود خطة السياسة الصناعية التي وضعتها الحكومة، فمن المنتظر أن تدعم جهود الإصلاح الهيكلي التي وصفها خبراء الصندوق الدولي بالمثيرة للإعجاب، وتأتي كل هذه الإنجازات الكبيرة مع استمرار الجهود في تطبيق "مبادرة السعودية الخضراء" وزيادة مصادر الطاقة المتجددة، هكذا يظهر الاقتصاد السعودي مزدهرا بشكل مخطط له ونمو متوازن في جميع القطاعات مع تنامي دور القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، ونحن نقترب من تحقيق مستهدفات "رؤية 2030" مع تتويج باستضافة معرض إكسبو الدولي.