الشركات والمستهلكون .. ما الذي تغير؟
تؤثر القيود المالية بشدة في الاستهلاك وسلوكه، وهذا معروف بالضرورة في علم الاقتصاد، فلا تحدث التقلبات الأساسية في العرض والطلب إلا بفعل القيود التي تتعرض لها المجتمعات، لكن هذه القيود قد تكون مستدامة وقد تكون مؤقتة، فقد يعيش ملايين من الناس في فقر مزمن أو يعانون نوبات من القيود المالية المحكمة، حتى المستهلكين من فئة الطبقة المتوسطة أو حتى العليا يعانونها.
ففي دراسة حديثة صدرت أخيرا، أكد 25 في المائة من الأشخاص في الولايات المتحدة الذين يكسبون ما يزيد على مائة ألف دولار سنويا أنهم في الأغلب لا يشعرون بالقيود المالية، بينما 27 في المائة لا يستطيعون شراء كل ما يحتاجون إليه، فإذا كانت هذه القيود أو النوبات أمرا شائعا في الاقتصاد، فلماذا يظهر القلق على الشركات والمتاجر، خاصة متاجر التجزئة عندما تنتاب الناس قيود مالية كالتي تظهر اليوم مع ارتفاع أسعار الفائدة ومعدلات التضخم وضعف الائتمان؟
هنا حاولت صحيفة "الاقتصادية" تتبع هذه الحالة من خلال تقرير نشرته نهاية الأسبوع الماضي، إذ تبدو الإجابة صعبة عن السؤال الأهم وهو، ما إذا كانت هذه التغييرات مجرد استجابة مؤقتة للظروف الجديدة، أو تحول أكثر ديمومة في سلوك المستهلك؟ وللحقيقة، لو كان أحد يعرف الإجابة عن هذا السؤال فإنه لن يقدمها مجانا، فهي تشكل ثروة ضخمة، ذلك أن اتجاهات المستهلكين ليست مرتبطة فقط بالقيود المالية بل بقضايا مثل الجودة، ومسارات التضخم، وأسعار الفائدة، والرهون العقارية، وتوافر الائتمان السهل، كل هذه القضايا إضافة إلى التغيرات في مفهوم الولاء، جعلت من الصعب قراءة ميل المستهلكين، فمثلا قبل الأزمة المالية نمت الأجور في معظم دول العالم،
وارتفعت ملكية المنازل واتسعت فرص الحصول على الائتمان، حتى أصبح من الممكن حصول الأسر على ائتمان من عدة مقرضين، وهذا في مجمله عزز قوتها الإنفاقية، وقد تزامن أن ظهرت في الوقت نفسه منتجات بأسعار معقولة قادمة من دول آسيا، ما عزز قدرة الفئات المتوسطة على الإنفاق فوق مستوى الحاجات الأساسية، كل ذلك منح تجار التجزئة فترة ذهبية من الازدهار، فظهرت شركات التجزئة الكبرى في كل مكان تقريبا، لكن اندلاع الأزمة المالية العالمية في 2008 - 2009، ونمو الأجور الهزيلة، أضافا قيودا مالية جديدة على قرارات المستهلكين، وقد تسببت هذه الحالة الجديدة في الحد من القدرة على الشراء الواسع لعدد لا يحصى من المنتجات والخدمات التي يرغبون فيها، لأن بعض الشراء الموسع غير متاح أو لا يمكن تحمله، وتقيدت بالتالي خيارات المستهلكين، ما يشجعهم على التركيز أكثر عند اتخاذ قرارات الشراء والعمل على إيجاد بدائل، فهم يصبحون أكثر حساسية للمحال التي تقدم بدائل محدودة من المنتجات نفسها وبأسعار غير تفاوضية، مهما كان حجم الولاء لها، كأن تكون قريبة من المنزل، أو لديها متسع من المواقف الجانبية للسيارات، فإن القيود التي تتزايد على الدخل تفرض البحث عن مساحة أوسع من البدائل، وتزامنت هذه التحولات في اتجاهات الاستهلاك مع ظهور الهاتف الذكي، وتطبيقات البيع بالتجزئة مع تطبيقات توصيل سريعة، ما ساعد على زيادة سرعة التسوق عبر الإنترنت وقدمت نموذجا تنافسيا جديدا على ما تنفقه الطبقة المتوسطة، وكانت النتيجة حقبة جديدة من التسوق الأكثر حكمة، وتخلص فيها العملاء من ولائهم، فلم تعد مسائل مثل نقاط العملاء جاذبة، ولا فكرة مراكز التسوق التي تتضمن مطاعم وملاهي كافية للإقناع بالشراء، لكن هذا التحول في مفهوم الولاء لم يؤثر في المستهلكين الخاضعين لقيود مالية مثل انخفاض الأجور أو الرهون العقارية فحسب بل امتد هذا الأثر حتى ارتفعت نسبة المتسوقين الأكثر ثراء الذين يقولون إنهم انتقلوا إلى بدائل أرخص في محال السوبرماركت، حيث بلغت نسبتهم 40 في المائة خلال أبريل 2023، أما نسبة أولئك الذين قالوا إنهم مستعدون لتناول طعام ينظر إليه على أنه أقل جودة، فقد ارتفعت من 16 إلى 23 في المائة، كما تشير محال السوبرماركت إلى مزيد من الاهتمام بمنتجات الوجبات الجاهزة الممتازة، ما أدى إلى انخفاض الإنفاق في المطاعم وفقا لبيانات منشورة، فكيف يمكن فهم ما حدث؟
ببساطة، أدى توسع الطبقة المتوسطة في حقبة ما قبل الأزمة المالية وطوال أكثر من ثلاثة عقود مع مساحة واسعة من الحرية المالية إلى تغيرات واسعة في سلوك المستهلكين ورغباتهم، ما أدى إلى تنافسية كبيرة على هذه الفئة العريضة التي صنفت أنها تضم الأشخاص الذين يشغلون مناصب إدارية عليا ومتوسطة في الوظائف الإدارية والمهنية، لكن التحولات التي حدثت بعد الأزمة المالية في دخل هذه الفئة مع انخفاض الأجور اسميا وحقيقيا، وظهور الهاتف الذكي وتوسع البدائل، فإن الأثر في سلوك المستهلكين قد امتد حتى الطبقة الثرية التي تخلت هي الأخرى عن مفاهيم الولاء، إذ إن نسبة كبيرة من المتسوقين الأكثر ثراء يقولون إنهم انتقلوا إلى بدائل أرخص، وبدأ تراجع الطلب على بعض بضائع التجزئة باهظة الثمن، وحذرت شركة بيع بالتجزئة من أن السوق "أسوأ بكثير من المتوقع"، في حين قال رئيس شركة بيع قطع غيار الدراجات والسيارات "إن العملاء يقضون وقتا أطول وهم يفكرون بعناية في الإنفاق التقديري على المنتجات باهظة الثمن".
وهذا يظهر دليلا مهما على أن المحرك الأساس لتقلبات سلوك المستهلك يأتي من الطبقة الوسطى. لهذا السبب فإن محال السوبرماركت تعمل للحفاظ على المتسوقين من الطبقة المتوسطة مهما كانت التضحيات، وبدأ تجار التجزئة يستخدمون طرقا فنية مختلفة للاحتفاظ بالمتسوقين بخطط تسويق مبتكرة وحملات مطابقة الأسعار إلى أصناف جديدة منخفضة التكلفة، لكن التحدي الذي يواجه الجميع اليوم هو أن ما كان صحيحا في الماضي ليس بالضرورة أن يكون كذلك في المستقبل، فالذين يستجيبون للعروض الترويجية اليوم لا يمكن تحويلهم إلى متسوقين منتظمين وثابتين ودائمين، وكظاهرة استهلاكية جديدة مع القدرة الواسعة على البحث عن بدائل الخيارات، إضافة إلى الرغبة الكبيرة لدى المتسوقين في التخلص من الولاء، فعندما تنظم الشركات حملات ترويجية ضخمة تكسب منها 20 ألف عميل مثلا، لكن المشكلة هي صعوبة الاحتفاظ بهم.