"ديترويت" على أعتاب تحول جذري .. من الإفلاس إلى عصر السيارات الكهربائية
قبل 11 شهرا تقريبا، وتحديدا في 14 سبتمبر من العام الماضي وقف الرئيس الأمريكي جو بايدن في اليوم الافتتاحي لأول معرض دولي للسيارات في أمريكا الشمالية تستضيفه مدينة ديترويت منذ 2019، ليعلن للحضور ووسائل الإعلام "التصنيع الأمريكي عاد.. ديترويت عادت.. أمريكا عادت".
"التصنيع، ديترويت، أمريكا" ثلاث كلمات كانت تعكس بالفعل تاريخ الولايات المتحدة لأكثر من قرن، حيث صناعة السيارات وديترويت وعظمة الولايات المتحدة. مترادفات لا تنفصل عن بعضها بعضا.
صناعة السيارات كانت كفيلة بتحويل ديترويت من مدينة ساحلية متواضعة النمو لتصبح أيقونة أمريكية بكل معنى الكلمة، ولتحتل المرتبة الرابعة بين مدن الولايات المتحدة، لكن كما يقول المثل العربي "ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع". تدريجيا بدأت المدينة وسطوتها التاريخية في صناعة السيارات في التآكل، وبحلول 2013 كان تراجع ديترويت شديد الوضوح، فعدد سكانها لم يتجاوز ثلث عدد سكانها في خمسينيات القرن الماضي، كان السكان يرحلون في صمت ويغادرون مدينتهم، فالمدينة كانت تغرق حينها في دوامة من الديون تقدر بـ18 مليار دولار، وكما دخلت ديترويت التاريخ بحسبانها عاصمة صناعة السيارات في العالم، دخلت التاريخ مرة أخرى عندما أصبحت أكبر بلدية في الولايات المتحدة تقدم طلبا لإعلان إفلاسها.
هل تصريحات الرئيس بايدن دقيقة؟ هل تعود ديترويت للحياة فعلا أم أن الأمر لا يتجاوز خطابا إعلاميا وتصريحات تطلبها اللحظة؟ ألم يلق الرئيس الأمريكي كلماته في معرض دولي للسيارات في عاصمة سابقة لصناعة السيارات، وهو السياسي المعروف تاريخيا بعلاقاته بأساطين الصناعة وقادتها.
في الوقت الحالي يسعى قادة المدينة إلى الاعتماد مرة أخرى على صناعة السيارات لدفع الانتعاش الاقتصادي، فألقوا بذكريات الإفلاس خلف ظهورهم، وقاموا بإعادة إحياء مدينتهم، ووصل التفاؤل ذروته من خلال تعهد عمدة ديترويت مايك دوجان رسميا بأن تهزم المدينة وادي السيليكون رمز التكنولوجيا الأمريكية.
لكن لماذا تحديدا يريد سكان ديترويت هزيمة وادي السيليكون؟
يقول لـ"الاقتصادية"، المهندس جي. كريس نائب مدير قسم الأنظمة الميكانيكية في شركة فوكسهول للسيارات "صانعو السيارات في الولايات المتحدة يخصصون كثيرا من الأموال في تطوير التكنولوجيا الرقمية، بدءا من محركات القيادة والبطاريات للسيارات الكهربائية إلى مجموعة واسعة من الأجهزة والبرامج التي تربط السيارات بالإنترنيت وتجعلها ذاتية القيادة، وكثير من الأموال المستثمرة في صناعة السيارات بدلا من أن تتوجه إلى ديترويت وجهت إلى وادي السيليكون والمراكز التقنية التقليدية الأخرى، وقد انعكس ذلك سلبا على ديترويت التي تحمل وادي السيليكون جزءا من أسباب تراجعها كعاصمة صناعة السيارات في العالم".
ويضيف "لكن الوضع يتغير الآن حيث حولت عديد من شركات صناعة السيارات تمويلها إلى ديترويت من جديد مع التركيز على بناء قاعدة عمليات إبداعية وتكنولوجية، بل إن بعض تلك الشركات مثل شركة فورد تقوم بتطوير وسائل راحة عامة جديدة للسكان المحليين، وترميم بعض أجزاء البنية الأساسية على أمل أن تعيد الحياة لديترويت وتجعلها جذابه كما كانت في الماضي".
لتلك الأسباب وأسباب أخرى يراهن كثير من الخبراء بأن مستقبل ديترويت سيشهد مزيدا من التحسن، فصناعة السيارات الأمريكية تشهد واحدة من أكبر طفرات بناء المصانع منذ أعوام، وهناك زيادة في الإنفاق الاستثماري مدفوعة إلى حد كبير بالتحول الذي تشهده الولايات المتحدة من السيارات ذات المحركات التقليدية إلى السيارات الكهربائية.
كما أن الإعانات المقدمة من الحكومة الفيدرالية لصناعة السيارات تهدف إلى تعزيز تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة، وفي أواخر العام الماضي تعهدت شركات صناعة السيارات بضخ استثمارات جديدة بقيمة 33 مليار دولار في مصانع السيارات الأمريكية، وسيصب الجزء الأكبر من الاستثمارات في ديترويت لبناء مصانع جديدة ومصانع لصناعة البطاريات.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور أريك فيليب أستاذ الاقتصاد الأمريكي في جامعة ووريك "سباق صانعي السيارات خاصة في مجال إنتاج السيارات الكهربائية هو العامل الأكبر وراء فورة الإنفاق الراهنة، ومن المرجح أن تعمل حزمة المناخ الفيدرالية التي أقرتها واشنطن العام الماضي على تسريع مزيد من الاستثمارات الأمريكية في تلك الصناعة، إذ خصصت عشرات المليارات من الدولارات لدعم مصانع السيارات الكهربائية والبطاريات، وبعض الشركات الأجنبية تستهدف السوق الأمريكية لتعويض الضعف في السوق العالمية".
ويضيف "كما أن شركات السيارات الكهربائية الناشئة حديثا تعمل على بناء قدراتها التصنيعية، وجزء كبير من تلك الاستثمارات تتركز في ديترويت نظرا لما تتمتع به من إرث طويل الأمد في العلاقة مع صناعة السيارات الأمريكية الرئيسة".
من هذا المنطلق يرى بعض الخبراء أن مدينة ديترويت وصناعة السيارات الأمريكية يقفان على اعتاب تحول جذري، وسيكون للطريقة التي تتعامل بها المدينة والصناعة مع ثورة السيارات الكهربائية عواقب ليس فقط على منتجي السيارات في المدينة، لكن على مشتري السيارات في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم، لكن هذا الارتباط بين ديترويت وصناعة السيارات الكهربائية وعلى الرغم مما يحمله من آفاق رحبة باستعادة المدينة دورها التاريخي في صناعة السيارات، فإن الطريق لا يبدو معبدا تماما.
ربما تكون أولى المشكلات التي قد تواجه المدينة أن قوتها العاملة من الضخمة بحيث يصعب أن تتأقلم بشكل صحي ودون تكلفة مرتفعة مع احتياجات صناعة السيارات الكهربائية. فبناء السيارات الكهربائية يتطلب عمالة أقل بنسبة 30 في المائة من سيارات محرك الاحتراق الداخلي، وبعض شركات السيارات اضطرت إلى تسريح آلاف من العمال، ومن ثم عملية تحول السوق الأمريكية من السيارات التي تعمل بالوقود التقليدي إلى السيارات الكهربائية قد يسفر عنه ارتفاع معدلات البطالة بين سكان المدينة.
وعلى الرغم من التطمينات الصادرة عن كبار المسؤولين في مجال صناعة السيارات بأن التحول إلى إنتاج السيارات الكهربائية لن يكون على حساب الطبقة العاملة في المدينة، إلا أن هذا لا ينفي أن الشعور بالقلق من ارتفاع معدلات البطالة مستقبلا مخاوف مشروعة لها ما يبررها.
وقد دفعت تلك المخاوف بالرئيس بايدن للتشديد على الدور الذي ستلعبه النقابات في بناء السيارات الكهربائية، فضلا عن بناء البنية التحتية للصناعة ككل، وقد قال الرئيس الأمريكي "لن نترك أحدا وراءنا " في مسعى منه لطمأنه النقابات العمالية بأن التحول من الوقود التقليدي إلى الكهرباء لن يكون على حساب العاملين في مجال صناعة السيارات.
مع هذا يحذر الدكتور إيفان بلاك إيلي أستاذ اقتصاد النقل في جامعة كامبريدج من الإفراط في التفاؤل بشأن إمكانية استعادة مدينة ديترويت مركزيتها التاريخية في صناعة السيارات، إذ إن الأعوام التي فقدت فيها موقعها كدرة تاج صناعة السيارات العالمية، شهدت ظهور مدن منافسة لها في الولايات المتحدة وخارجها، وعملية الانتقال من تلك المدن إلى ديترويت يرفع تكلفة الإنتاج.
لكن الأكثر أهمية في صياغة مستقبل المدينة وعلاقاتها تحديدا بصناعة السيارات الكهربائية يرتبط من وجهة نظر الدكتور إيفان بلاك إيلي بأن تكون السيارات الكهربائية في متناول جميع الأمريكيين.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إنه "على الرغم من الجهود المبذولة في الولايات المتحدة لخفض أسعار السيارات الكهربائية إلا أن أسعارها ارتفعت في ظل معدلات التضخم، والتوسع في التصنيع والائتمانات الضريبية من شأنه أن يساعد في خفض الأسعار، وإذا لم يتحقق ذلك فلن يحدث إقبال جماهيري على شراء السيارات الكهربائية، ودون ارتفاع الطلب ستقلص صناعة السيارات من ضخ مزيد من الاستثمارات في الصناعة".
من المؤكد الآن أن ديترويت تعافت من أزمة الإفلاس، والمدينة تخطو إلى الأمام يوما بعد آخر بفضل عملية الدفع التي تقدمها لها شركات صناعة السيارات، لكن ما يدركه الجميع أن هذا التعافي مرهون بنجاح شركات صناعة السيارات في الانتقال إلى عصر السيارات الكهربائية.
وعلى الرغم من أن إنتاج هذا النوع من السيارات يحتاج إلى أيد عاملة أقل، فإن زيادة الإنتاج تضمن تشييد مزيد من مصانع السيارات الكهربائية، وما يتضمنه ذلك من إيجاد مزيد من فرص العمل لسكان المدينة، وجذب قوى عاملة إضافية من خارجها، وسيوجد ذلك كله طلبا محليا متنوعا يمكن إشباعه بإيجاد صناعات أخرى في ديترويت، وليس صناعة السيارات فقط، وهو ما يضمن للمدينة اقتصادا أكثر تنوعا عما كانت عليه في الماضي وأكثر قدرة على الاستدامة.