التفاعل .. ما بين التنظير والتغيير
تختلف المنظمات في طبيعة تحدياتها، هناك من تكون معظم تحدياته حول السوق والمنافسة، وهناك من تكون تحدياته تشغيلية وتنظيمية، وآخرون ترتبط مشكلاتهم بالثقافة السائدة وإدارة المواهب. وبكل تأكيد هناك من يغوص في كل ذلك في عالم معقد متعدد الجبهات. يتعامل الموظفون والمديرون مع هذا الواقع بطرق مختلفة، تبدأ من الكلام الفارغ وتتطور إلى التنظير والفلسفة، وقد تتحسن الأفكار والسلوكيات تدريجيا إلى أن يلتقي معها العمل والأداء فترتقي إلى التنفيذ ومن ثم التغيير. وبين ذلك وذلك كثير من المراحل الأخرى التي نجد فيها من يقوم بدور "تكملة العدد" ومن "يساير الموجة" ومن يمكث في الظل والزوايا ومن هو معتزل في خلوته التنظيمية مبتعد تماما عن الضوضاء.
يملك كل موظف استراتيجيته الخاصة به من حيث أسلوب التفاعل داخل مقر عمله، وتؤثر سماته وتفضيلاته الشخصية وخلفيته وخبراته في تحديد هذه الاستراتيجية. تؤثر معتقدات الموظف في استراتيجية التفاعل الخاصة به، فموظف بائس محبط لا يثق في قدراته لن يجرؤ على محاولة التنفيذ الجدية التي تصنع الفارق، وآخر ساخر متهكم سيكون مستعدا لاستهلاك ساعات العمل في النقاشات التي يعلم أنها لن تقوده وزملاءه إلى مخرج حقيقي من التحدي الذي يواجهونه، بينما الصادق ـ مع نفسه ومع الآخرين ـ الذي يملك ما يكفي من النزاهة والطاقة والمعرفة سيملك ما يكفي ليحرك به كثيرا من المياه الراكدة.
الحديث من جانب الموظف فقط حول الفسحة بين التنظير والتغيير حديث غير عادل، هناك محوران بالأهمية ذاتها لا يقلان عن المحور الشخصي ـ المهني للموظف واختياراته في التفاعل مع عمله.
المحور الأول منهما هو المنظمة واحتياجاتها وثقافتها، فشركة تعمل في مجال تنافسي تختلف عن شركة لها امتياز خاص في سوقها، ومنشأة في طور التأسيس تختلف عن منشأة عتيقة رتيبة مستقرة، ومنظمة فكرية وأخرى تسهم في التشريع تختلف عن منظمة تقدم خدمات تقيس الأداء أو خدمات الطرف الثالث المستقل. طبيعة العمل ونوع الاحتياجات ودرجة الضبابية وتصنيف المخاطر كلها أمور تؤثر بشكل مباشر على الاستراتيجية الأفضل التي يجب أن يختارها الموظف لذلك المكان. وهذا لا يعني بأن التنظير أمر محمود في بعض الأماكن ولكن هناك حالات تستوجب قدرا من التحضير الذهني والعصف والنقاشات لكثير من التفاصيل قبل تنفيذها، للمداولة ولتوحيد التوجهات ولمواجهة مشكلات جديدة ومعقدة لم يسبق التعامل معها.
المحور الثاني المهم جدا هو أسلوب القيادة العليا في التأثير في سلوك وتفاعل الموظفين مع شركتهم. هناك بالطبع من يقوم بالتحفيز على التفاعل باختلاف درجاته، وهناك من يقوم بالتحذير من التفاعل. وأسلوب القيادة هنا يقصد به تصرفات الأشخاص وتأثيرات الترتيبات الإدارية والتنظيمية الموجودة في هرم المنظمة، وكيف تحدد شكل ما يقبل وما لا يقبل من تفاعلات، سواء بشكل صريح أو بطرق غير مباشرة.
من المثير أن أسلوب القيادة العليا قد يكون نتيجة أمر مدروس ومصمم ـ وهذا الأقل ـ وفي الأغلب هو مجرد نتيجة لعشوائية اجتمعت وفق تفضيلات المؤثرين في قيادة الشركة.
من الرائع أن تتوافق هذه المحاور "الاستراتيجية الشخصية واحتياجات المنظمة وأسلوب القيادة" بشكل سلس ومتناغم لتصنع أفضل التفاعلات، ولكن التوافق المثالي أمر أقرب إلى المستحيل.
لهذا، ينبغي لجميع الأطراف أن تأخذ ذلك في الحسبان وتعمل على التحرك باتجاه أسلوب التفاعل المستهدف مع الاستعداد للتسديد والمقاربة حسب الواقع.
وكما أن "ليالي العيد تبان من عصاريها" فالنتيجة تكاد تكون واضحة من بدء عملية الاختيار، اختيار الموظف لشركته واختيار الشركة لموظفها. اختيار موظف استراتيجيته الشخصية لا تتفق مع أسلوب التفاعل المستهدف يعني بكل تأكيد أسلوب تفاعل غير مرغوب فيه وهناك كثير من الأمثلة لبيئات عمل تطمح بحدوث التغيير والتحول للأداء المرتفع، ولكنها تغوص في وحل النقاشات الفارغة والمداولات العقيمة في كل اجتماع.