الفائدة والنمو والتوازن الصعب
تبحث الاقتصادات الكبرى والمتقدمة حول العالم عن النمو، لكنها في الوقت نفسه حريصة للسيطرة على وتيرة التضخم التي وصلت إلى مستويات قياسية في العامين الماضيين، ولا تزال مرتفعة بصورة متفاوتة بين اقتصاد وآخر.
وفي الوقت الذي تفضل فيه الحكومات أن تدور مؤشرات اقتصاداتها وتتحرك على محور التباطؤ، فإنها تبذل ما تستطيع للبقاء خارج دائرة الركود أيضا. العملية ليست سهلة، خصوصا في ظل التشديد النقدي الذي بات منذ اليوم الأول لهبوب العاصفة التضخمية الأداة الوحيدة لكبح جماح التضخم.
ويبدو واضحا أن المشرعين في الاقتصادات الرئيسة على الساحة العالمية، يريدون أن ينتهوا من فترة رفع تكاليف الاقتراض، إلا أنهم في الوقت نفسه، لا يرغبون أن يضحوا بالإنجازات التي تحققت على صعيد التضخم، وإن كان هذا الأخير لا يزال بعيدا عن الحد الأعلى الذي حددته الحكومات بـ2.5 في المائة.
ولا تزال البنوك المركزية الرئيسة متمسكة بترك الباب مفتوحا لتحديد أسعار الفائدة دوريا، ما وتر الأجواء الاقتصادية، ولا سيما على صعيد الاستثمارات وأسواق الأسهم والسندات. وليس أمام هذه البنوك إذا ما أرادت تحقيق النمو حتى بمستويات محدودة، سوى العودة عن سياسة التشديد النقدي، عبر تخفيض مستويات الفائدة. اللافت في هذه النقطة خصوصا، أن بنك الشعب الصيني "البنك المركزي" أقدم على نحو غير متوقع على خفض الفائدة الرئيسة بأكبر نسبة منذ 2020. وهذا العام "كما نعلم" بدأت الموجة التضخمية تلوح في الأفق، لتصل إلى مستويات تاريخية في أغلبية الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا واليابان. المشرعون الصينيون أرادوا بالطبع تحريك عجلة الاقتصاد بصورة أسرع، في ظل الأزمة العاصفة الجديدة التي يمر بها القطاع العقاري في الصين، فضلا عن ضعف الإنفاق الاستهلاكي.
والمفاجأة في القرار الصيني، أنه يعد الثاني في غضون ثلاثة أشهر، في حين كانت التوقعات تشير إلى أن البنك المركزي في بكين سيحافظ لبعض الوقت على المستويات الحالية للفائدة. غير أن الأمور لا تجري على ساحات أخرى كما هي في الصين. فقد أقدم البنك المركزي الأوروبي أخيرا على رفع تكاليف الاقتراض، بل أعلن عزمه على رفعها مجددا إذا ما دعت الحاجة. فالنمو المتوقع لمنطقة اليورو هذا العام لا يتجاوز 2 في المائة وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلا. والأمر في بريطانيا يبدو أسوأ، إذا إن الفائدة البريطانية بلغت مستويات مرتفعة تاريخية، ما أثر بقوة في الأداء الاقتصادي العالمي، وأنتج أزمة متفاعلة على صعيد القطاع العقاري، الذي يعاني خروج مالكي المنازل عبر الرهن قسرا، لعجزهم عن التسديد.
الأمور ليست متساوية تماما بين الاقتصادات الكبرى على الأقل في الوقت الراهن. ففي اليابان التي تعاني أكبر مديونية في تاريخها ارتفع النمو إلى 6 في المائة في الربع الثاني من العام الجاري، وهذه النسبة شكلت صدمة عند المراقبين الذين لم يكونوا يتوقعون ارتفاعا بهذا المستوى. غير أن الأمور عموما لم تستقر بعد، وكل شيء بات مرهونا بالنتائج الاقتصادية في نهاية العام الحالي. ففي الولايات المتحدة، التي لن تستطيع تحقيق نمو يزيد على 1 إلى 1.5 في المائة هذا العام، أبقت الباب مفتوحا على زيادة الفائدة في المراجعة المقبلة، رغم أن الاقتصاد الأمريكي أصبح يتمتع الآن بأقل نسبة تضخم بين أقرانه الغربيين، حيث سجل أخيرا 3 في المائة، في حين تبلغ في المملكة المتحدة 6.8 في المائة.
وفي كل الأحوال، لا يزال الأداء الاقتصادي العالمي يمضي على وتيرة التضخم والتشديد النقدي، ويبدو واضحا أن المشرعين باستثناء أولئك في الصين الذين خفضوا الفائدة لأسباب محلية خالصة وبسبب أزمة عقارية، سيواصلون التمسك بفائدة مرتفعة لضمان تضخم منخفض لفترة طويلة لا تحسب بالأشهر بل بالأعوام.