هل تتأقلم الوظائف؟
طرحت خلال الفترة الأخيرة أسئلة بشكل متزايد ومستمر عقب اكتشاف التقنية، وتطور الحاسبات الآلية مع ثورة الإنترنت، وما أنتجته اليوم من عالم التطبيقات عن مدى تأثير هذه التكنولوجيا الكبير في الوظائف. ولكن رغم أن ظهور أي تقنية جديدة كان بمنزلة إعلان وفاة لتقنية سابقة، فإن العمال قادرون بشكل لافت على التأقلم مع التحولات الجديدة في بيئة العمل، وكانت الآلة طوعا للإنسان في كل المراحل السابقة، لكن رغم وضوح هذه الحقيقة فإن النقاش حول تأثير الذكاء الاصطناعي في الوظائف يأخذ حيزا كبيرا.
وهناك في هذا الصدد وجهتا نظر لهما قاعدة عريضة من المؤيدين، ولعل هذا يفسر السباق المحموم على إنتاج تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل لافت، وهو الأمر الذي أدى إلى أن تقوم الولايات المتحدة بعقد جولات من المفاوضات مع الشركات المطورة لهذه التقنيات لمعالجة قضايا عدة، من بينها صعوبة التمييز بين ما تم توليده من قبل الذكاء الاصطناعي وما بين إنتاج الإنسان نفسه، وهذا مطلب ملح ليس فقط للنواحي التي تتعلق بالبحث العلمي والدراسات الأكاديمية، بل حتى في مسألة سياسية مهمة مثل الانتخابات، فمن السهل اليوم إنتاج مادة علمية تتضمن صورا ومقاطع، ومع ذلك فهي غير حقيقية وإنما من توليد الذكاء الاصطناعي، لعل هذه المسائل هي ما يثير القلق عند المستوى السياسي من قضايا تنامي استخدامه ولم تكن القضايا المتعلقة بتهديد الوظائف محل نقاش موسع، والسبب كما أشرنا إلى أن هناك وجهات نظر مختلفة بهذا الشأن.
وفي هذا الصدد حاورت "الاقتصادية" خبراء في هذا الشأن وانتهت إلى أنه قد يكون ذا تأثير إيجابي في بعض الوظائف وسلبيا في البعض الآخر، فهناك - كما كانت الحال في كل حقبة - خاسرون ورابحون من ظهور هذه التقنيات، وإذا كانت الحال هذه فما هو الذي يشكل فارقا في ظهور الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد.
وكانت الخبرة هي التحدي الأبرز في التعامل مع الآلة في كل وقت، والخبرة كانت تتطلب كثيرا من التدريب، فمثلا مهام كبيرة مثل التصميم الهندسي أو المسائل الطبية، أو قضايا تتعلق بالبرمجة أو الترجمة والتحليل الإحصائي، كلها قضايا كانت تجد التقنية معينا وداعما لها لكن هذا بشرط حصول الأشخاص القائمين على تشغيل هذه التقنيات على تدريب طويل وكاف، ولهذا بقيت هذه المهن في أبراجها ويحصل الخبراء على عوائد أكبر كلما تزايدت الخبرة وأعوام التجربة، لقد كان الأقل خبرة عرضة للخروج من المناصب والوظائف، لكن الذكاء الاصطناعي وفقا لوجهة نظر الخبراء قد قلب الطاولة تماما أو في طريقه نحو ذلك، فقد استطاع منح الأشخاص الذين ليس لديهم تعليم جامعي الأدوات التي يحتاجون إليها للقيام بمزيد من أعمال المتخصصين، ومنحهم قدرة كسب أجور أعلى وسد الفجوة في الخبرة، وهذه علامة فارقة في البيئات التي يوجد فيها الذكاء الاصطناعي، وإذا كنا نقول إنه قد قلب الطاولة فإن المقصود هنا أنه لم تعد هناك حاجة إلى تعليم عميق في تخصص ما، بل يكفي الإلمام العام بأهم المصطلحات وتدريب معقول من أجل فهم نتائج الذكاء الاصطناعي ومن ثم الانطلاق مع هذه التقنية للوصول بأي منتج إلى المستوى المطلوب فيما لو كان قد أنجز من قبل خبير متمرس.
وهذه الفكرة يدعمها حقيقة أن الاستخدام الجيد للذكاء الاصطناعي- وفقا لرأى الخبراء - يمكن الأشخاص ذوي الخبرة التأسيسية أو الحكم الابتدائي من القيام بمزيد من أعمال الخبراء بخبرة أقل. كما أن هذا التحول يجد دعما كبيرا من حيث إن هذه التقنية الجديدة تأتي في وقت يتسم بنقص العمالة مع التخطيط الصحيح، ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لجعل مهارات الأشخاص أكثر قيمة، بدلا من الحلول محلها. وبناء على وجهة النظر هذه فإن الندرة في الخبرات والتخصصات لم تعد عائقا أمام توسيع الإنتاج في مثل المهن، وهذا يعني أن الخاسرين هذه المرة ليسوا الأقل مهارة، بل هم الأكثر مهارة وخبرة، وهذا قد يقود في مسار ما إلى مساواة في الرواتب من حيث إن ذوي المهارة المتوسطة الذين يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي في بيئة عمل مواتية قادرون على تعويض نقص الخبرة، وبالتالي لم تعد هناك حاجة ماسة للخبراء ذوي الياقات البيضاء، ما يعني انخفاض الطلب وبالتالي تراجع الأجور إلى مستوى التوازن، وفي هذا يقول الخبراء إن الذكاء الاصطناعي قد يمكن من إعادة بناء وظائف الطبقة الوسطى، وهذا لا يعني أن يكون أصحاب الخبرة بلا وظائف، ، لكن هذا يتطلب منهم بناء خبرات جديدة، وهذا لن يتحقق ما لم يتمكن هؤلاء الخبراء من ابتكارات جديدة تماما تعجل الطلب عليهم فعلا، فهناك دائما سباق بين أتمتة التكنولوجيا لشيء كان في السابق اختصاصيا والأشياء الجديدة التي يتم ابتكارها.