البنوك .. اختلالات مؤقتة أم دائمة؟
منذ الأزمة المالية العالمية 2008، أصبحت مؤسسات تقييم مخاطر الائتمان أكثر تشددا في تقاريرها، خاصة في القطاع البنكي، وقبل إفلاس بنك سيلكون فالي كانت وكالة موديز قد خفضت التصنيف الائتماني للبنك على الودائع المصرفية طويلة الأجل، إلى Caa2 من A1 وتصنيفات المصدر إلى C من Baa1. وأشارت الوكالة في تقريرها بشأن تقييم بنك سيلكون فالي إلى أن الدوافع الرئيسة هي مخاطر أسعار الفائدة الكبيرة وإدارة الأصول والخصوم والحوكمة الضعيفة، إضافة إلى الودائع غير المؤمن عليها وقدرة البنك على الاسترداد، وقد حدث بعد ذلك التقييم أكبر إفلاس لثلاثة بنوك كانت قيمة أصولها تعادل قيمة أصول كل البنوك التي أفلست في الأزمة المالية 2008، ونعم استطاع الاقتصاد الأمريكي تجنب انهيار مماثل لذلك الذي حدث في الأزمة المالية، لكن بقيت الأسئلة بشأن آلية إدارة البنوك للأصول والخصوم والحوكمة الضعيفة، وأيضا أسئلة بشأن التأثير الحقيقي لمثل هذه التصنيفات.
تعود اليوم وكالة موديز وفق تقرير لـ"لاقتصادية" نشرته قبل أيام إلى تخفيض تصنيف عشرة بنوك أمريكية، وحذرت من أنها قد تخفض تصنيف عدد من البنوك الكبرى الأخرى، كما أنها خفضت في أبريل الماضي تصنيف الاقتصاد الأمريكي على المستوى الكلي من قوي جدا إلى قوي، وهذا ينقل العالم إلى مستويات جديدة من المخاطر المتعلقة بالعوائد، فلم يعد هناك ما يسمى بالعوائد الخيالية منها، بل إن المخاطر أصبحت تحيط بكل أنواع الاستثمار والأوراق المالية، والسبب يعود إلى عدة مصادر من بينها ضغوط التمويل ونقاط ضعف رأس المال التنظيمي والمخاطر المتزايدة المرتبطة بالعقارات التجارية، وكل هذه القضايا تعود بأسبابها إلى التشدد السريع في السياسة النقدية الذي سيستمر في خفض الربحية بشكل عام لارتفاع تكلفة رأس المال عموما، ويعني ضمنيا قدرة أضعف على توليد رأس المال داخليا في كثير من البنوك.
وهنا أكدت وكالة موديز في تقريرها أن بعض البنوك خفضت نمو القروض، من أجل المحافظة على رأس المال، ولكن ذلك يؤثر في الربحية بوضوح، كما أن مخاطر أسعار الفائدة يمكن أن توجد مخاطر السيولة. وعلى الرغم من أن البنوك الأمريكية ستستمر في الاستفادة من السيولة الاحتياطية الفيدرالية وتمويل نظام بنك القرض السكني الفيدرالي، إلا أن مصادر التمويل هذه تتطلب ضمانات، وتأتي بتكلفة أكبر من الودائع ويمكن أن تكون لها مدة أقصر من الودائع الأساسية، كما أن البنوك التي تعتمد على الودائع غير المؤمن عليها عرضة لهذه الضغوط أكثر من غيرها.
وتعتقد وكالة موديز أن البنوك الصغيرة ومتوسطة الحجم التي لديها انكشاف أكبر للقروض العقارية التجارية بسبب أسعار الفائدة المرتفعة، والتباطؤ الكبير في النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، وانخفاض الطلب على المساحات المكتبية بسبب اتجاهات العمل من المنزل. من المحتمل أن تؤدي هذه القوى إلى تدهور جودة أصول القروض في بعض قطاعات العقارات التجارية، ما يزيد من الضغط على الملفات الائتمانية للبنوك التي لديها انكشاف واسع في هذا القطاع، ومع توقعات الركود في الاقتصاد الكلي الأمريكي حتى الربع الأول من 2024، فقد وضعت الوكالة مستوى وجودة رأس مال البنوك مفتاحا لقدرتها على تحمل مخاطر الأصول السلبية، وكذلك استيعاب تكاليف التكيف مع نموذج الأعمال.
من الجدير بالذكر أن الوكالة أكدت أن القطاع المصرفي الأمريكي - وفقا لهذه القراءة -لا يزال قويا رغم أن البنوك الستة التي وضعت موديز قيد المراجعة لخفض تصنيف محتمل، قد شملت عمالقة الصناعة مثل بنك أوف نيويورك ميلون وبنك يو إس بانكورب وستيت ستريت وتريست فاينانشيال. ولا شك أن هذا التفاؤل الذي حاولت الوكالة الدفع به بشأن القطاع البنكي قد جاء لتهدئة الأسواق المالية، إلا أن ذلك لم يجد صداه بل أنهى مؤشر داو جونز جلسة الثلاثاء الماضي بانخفاض 159 نقطة، أو 0.5 في المائة وانخفض مؤشرS&P 500 0.4في المائة، وخسر مؤشر0.8 Nasdaq في المائة وتراجعت أسهم البنوك خصوصا في الأخبار. خسر بنك بي جي مورجن 1.3 في المائة، وخسر بنك أوف أمريكا 1.9 في المائة، ويبدو أن القلق يأتي من جانب الودائع التي تمثل نقطة ضغط على البنوك فمن المتوقع أن تنخفض أكثر حيث تدفع المعدلات المرتفعة العملاء إلى البحث عن بدائل توافر عوائد أعلى، وهذا ما أكدته تقارير الوكالة أن هناك خطرا كبيرا يتمثل في أن الودائع على مستوى النظام ستستأنف انخفاضها في الأرباع المقبلة.
ومع هذا تبقى مشكلة أساسية في القطاع البنكي لم تعالج حتى الآن جذريا، وهي تشكل عامل ضغط إضافيا، فإلى جانب التخفيضات التي أعلنتها وكالة موديز للاقتصاد الأمريكي من قوي جدا إلى قوي، كانت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني خفضت أيضا تصنيف الولايات المتحدة إلى AA+ من AAA، وذلك يعود إلى الدين العام الحكومي، وضعف الحوكمة، فمشكلة ضعف الحوكمة تلقي بظلال واسعة على القطاع البنكي الأمريكي، خاصة في جانب متطلبات رأسمال تنظيمي، حيث ترى وكالة موديز في تقريرها المنشور على موقعها أن بعض البنوك الأمريكية، خاصة تلك التي تعاني خسائر اقتصادية كبيرة لارتفاع أسعار الفائدة، لديها مشكلات في نسب رأس المال التنظيمي، هي بذلك عرضة أكثر من غيرها لفقدان ثقة المستثمرين، وهو أمر سلبي بالنسبة إلى هذه البنوك، كما أن صغر رؤوس الأموال الوقائية وضغوط الودائع على مستوى النظام، يمكن أن يجعل هذه البنوك أكثر اعتمادا على الودائع عالية التكلفة والاقتراض بالجملة من أجل تجنب البيع القسري للأوراق المالية أو القروض ذات السعر الثابت، ورغم أن هناك اقتراحا لزيادات في متطلبات رأس المال التنظيمي للبنوك التي تزيد أصولها على 100 مليار دولار، إلا أنه سيأتي بتكاليف متزايدة، وإذا كانت اللوائح المقترحة للبنوك للانتقال إلى مستويات رأسمال أعلى قد تضيف بعض الثقة، لكنها تؤدي في النهاية إلى مبيعات الأصول وعمليات الدمج والاستحواذ وغيرها من الإجراءات الاستراتيجية التي تضع ضغوطا على الربحية والامتياز على عدد من البنوك. ووفقا لهذه التصورات، فإن حالة البنوك الأمريكية ستظل مقلقة حتى لو حققت هذه البنوك أرباحا مرحلية جيدة، فالمخاطر واسعة واحتمالات تكرار تجربة إفلاس بنوك كبيرة واردة، طالما استمر التشديد في السياسة النقدية قائما، وطالما أن حلول الحوكمة المقترحة قد تستغرق وقتا وتتطلب الاندماج والاستحواذ الذي له ضغوط على الربحية لوقت قد يطول.