صناعة الرقائق .. الهجرة يجب أن تملأ الفراغ
يبدو مصنع الرقائق التابع لشركة إنفينيون في دريسدن أشبه بمؤتمر تكنولوجي دولي أكثر من كونه مصنعا. حيث يتجول فيه أشخاص من الهند والصين والولايات المتحدة في قمصان متطابقة بيضاء اللون، و"شباشب" من علامة كروكس التجارية، وسراويل رياضية زرقاء داكنة.
تعد شركة إنفينيون نموذجا لمجموعة متنامية من مصانع التكنولوجيا الفائقة في ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا والتي أصبحت تعتمد بشكل كبير على العمال الأجانب لتلبية الطلب المتزايد على الفنيين والمهندسين.
ومن المقرر أن يزداد هذا الاعتماد مع تعزيز مكانة " ساكسونيا السيليكون - على غرار وادي السيليكون في الولايات المتحدة" كمركز ريادي لأشباه الموصلات في أوروبا. وسيأتي آخر إنجاز مهم لهذه العملية في الخريف المقبل، عندما تعلن شركة تي إس إم سي التايوانية لصناعة الرقائق، كما هو متوقع على نطاق واسع، عن خطط لإنشاء مصنع إنتاج جديد، أو كما يسمى فاب، في عاصمة الولاية.
لكن البعض بدأوا يتساءلون من أين سيأتي كل هؤلاء العمال.
قال مارتن دوليج، وزير الاقتصاد في ساكسونيا، "لدينا استثمارات ستوجد ما بين خمسة وثمانية آلاف فرصة عمل إضافية. ومع ذلك، تواجه ألمانيا نقصا حادا في المهارات وتراجعا سكانيا. وسينخفض عدد الأشخاص في سن العمل بمقدار 200 ألف على مدى الأعوام العشرة المقبلة".
ربما يكون الحل هو توظيف مزيد من العمال من الخارج. لكن ألمانيا لديها سجل متباين فيما يتعلق بالاستفادة من موارد المواهب العالمية في صناعة التكنولوجيا. كما أن صعود حزب البديل من أجل ألمانيا "أيه إف دي" المناهض للهجرة، والذي حصل على 30 في المائة في الاستطلاعات الحالية من الأصوات في ولاية ساكسونيا، يمكن أن يثني عديدا من الأجانب عن الانتقال إلى هناك.
ونفى رئيس وزراء الولاية، مايكل كريتشمر، أن ساكسونيا مكان معاد للأجانب. حيث قال في مقابلة، "الناس الذين يأتون إلى هنا ويريدون العمل هنا ويريدون الاندماج في المجتمع الألماني مرحب بهم للغاية".
لكن آخرين قلقون على صورة الدولة من تأثير صعود حزب البديل من أجل ألمانيا - واستمرار أنشطة حركة بيغيدا المعادية للأجانب والمسلمين، والتي تتمتع بقوة خاصة في ساكسونيا.
وقال دوليج، "ليس هناك شك أن حزب البديل من أجل ألمانيا يضر بجاذبية ساكسونيا كمكان للقيام بالأعمال".
حتى دون الشعبويين، فإن إقناع الناس بالعمل في مصنع للإنتاج عندما تكون هناك وظائف برواتب أفضل في شركات التكنولوجيا مثل جوجل وميتا، يمثل تحديا كبيرا. إذ يجب على العاملين في "غرف الأبحاث" قضاء نوبة عملهم كاملة وهم يرتدون ملابس واقية وأحذية مطاطية، وقفازات وأغطية للرأس وأقنعة.
وقال ينس فيليندورف، مدير الإنتاج في شركة إنفينيون، أثناء قيامه أخيرا بجولة في مصنع الإنتاج التابع للشركة، "الناس هم أقذر العناصر الموجودة هنا، لذلك علينا تقليل العامل البشري إلى الحد الأدنى. شعرة واحدة على رقاقة تشبه وقوع صخرة في العالم الطبيعي".
وتعكس الاستثمارات الجديدة في ساكسونيا دفعا في جميع أنحاء أوروبا لتنويع سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد المفرط على الرقائق من تايوان، والتي ينظر إليها الآن على أنها نقطة ضعف وسط تصاعد التوترات في مضيق تايوان.
وجاءت أبرز جهود الاتحاد الأوروبي لتحقيق "السيادة التكنولوجية" في أبريل عندما تم التوصل إلى اتفاق بشأن قانون الرقائق الأوروبي، الذي يهدف إلى جمع 43 مليار يورو من الاستثمارات العامة والخاصة من أجل صناعة الرقائق. وهذا من شأنه أن يضاعف حصة الاتحاد الأوروبي من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات إلى 20 في المائة بحلول 2030.
وتعد ساكسونيا، التي كانت مركزا للإلكترونيات الدقيقة في ألمانيا الشرقية السابقة، محورية في تلك الطموحات. حيث تنتج مليون رقاقة في العام - واحدة من كل ثلاث رقائق مصنوعة في أوروبا تأتي من هناك - ولدى كل من شركة إنفينيون وبوش وإكس فاب وجلوبال فاوندريز مصانع إنتاج في الولاية.
وتخطط جميع تلك الشركات لتنمية عملياتها، التي في الأغلب ما تكون مدعومة بإعانات مالية كبيرة من الحكومة الألمانية. وتقوم إنفينيون ببناء مصنع بقيمة خمسة مليارات يورو، كما تستثمر بوش مبلغ 250 مليون يورو لتوسيع غرفة الأبحاث في دريسدن، بينما تدخل جلوبال فاوندريز في العام الرابع من توسيع طاقتها لتصنيع الرقائق في المدينة.
ويوظف القطاع بأكمله 76 ألف شخص في ولاية ساكسونيا ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 100 ألف بحلول 2030.
لكن الوصول المتوقع لشركة تي إس إم سي في الخريف قد يزيد من الضغط على سوق العمل المحلية الضيقة أصلا. حيث قال فرانك بوزينبيرج، رئيس المجموعة النقابية في ساكسونيا السيليكون، "كلما جاء مشاركون جدد في السوق، كان هناك مزيد من المنافسة، خاصة على العمال المهرة".
وقد أعرب مارك ليو، رئيس شركة تي إس إم سي، عن قلقه بشأن هذه القضية. ففي حديثه في اجتماع للمستثمرين في يونيو، قال ليو إنه قلق بشأن نقص المواهب المتوافرة في ألمانيا. وقال، "توجد فجوات حقيقية هناك".
يتفق الاقتصاديون مع ذلك، ويحذرون من أن الوضع قد يزداد سوءا. فقد كشفت دراسة حديثة أجراها المعهد الاقتصادي الألماني عن وجود نقص يبلغ 62 ألف عامل في قطاع أشباه الموصلات في البلاد بين يونيو 2021 ويونيو 2022، ولا سيما في مهن مثل الهندسة الكهربائية وتطوير البرمجيات والميكاترونيكس.
وقال المعهد إن 28 في المائة من المهندسين الكهربائيين وثلث المشرفين الهندسيين في الصناعة سيصلون إلى سن التقاعد في الأعوام العشرة إلى الـ12 المقبلة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم ندرة المتخصصين على مستوى الصناعة.
يشار إلى أن ألمانيا ليست الدولة الوحيدة التي تواجه هذا المأزق. حيث وجد تقرير حديث أعدته شركة بي دبليو سي ستراتيجي آند "فجوة في المواهب" بلغت 350 ألف عامل في صناعة أشباه الموصلات الأوروبية بحلول 2030.
وفي الوقت نفسه، يمثل ضيق سوق العمل مشكلة في مختلف أنحاء اقتصاد ساكسونيا، وليس حصرا في قطاع التكنولوجيا. وقال ديتريش إنك، رئيس رابطة التجارة في ساكسونيا، "إن نقص المهارات ومسألة كيفية العثور على الموظفين والاحتفاظ بهم على رأس أولوياتنا تماما. إنها مشكلة جسيمة".
يتمتع صانعو الرقائق على الأقل بميزة التدفق المستمر للخريجين من جامعة دريسدن للتكنولوجيا، وهي واحدة من أفضل الجامعات في ألمانيا، إضافة إلى جامعتي فرايبرج وكيمنيتز. ويمكنهم أيضا الاتصال بشبكة منظمة فراونهوفر ذات الشهرة العالمية لمراكز البحث، والممثلة بشكل جيد في الولاية.
وقال رئيس وزراء ولاية ساكسونيا كريتشمر متباهيا، "لدينا أعلى نسبة من علماء منظمة فراونهوفر لكل فرد من السكان في ألمانيا".
كما أشار إلى إنشاء مركز تدريب جديد للإلكترونيات الدقيقة في ساكسونيا، أو "إس أيه إم"، والذي سيكون له نموذج غرفة أبحاث خاصة به، ويقوم بتدريب ما يصل إلى ألف متتلمذ سنويا لمصانع الرقائق الكبيرة وشركات التكنولوجيا الصغيرة.
إلا أن خبراء الصناعة يحذرون من أن الهجرة يجب أن تملأ الفراغ. حيث قال بوزينبيرج من مجموعة ساكسونيا السيليكون، "تقدم الجامعات كثيرا من التعزيزات، لكنها لن تكفي لخطط النمو الطموحة لدينا".
وقد أقرت الحكومة الألمانية أن البلاد ستحتاج إلى مزيد من العمال الأجانب. وأصدرت قانونا يسهل على المواهب الأجنبية تولي الوظائف حتى لو لم يكن لدى المتقدمين مؤهلات مهنية ألمانية كما تسهل أيضا على الأجانب الحصول على الجنسية الألمانية.
وقال بوزينبيرج إنه يأمل أن يكون وصول شركة تي إس إم سي حافزا لتدفق كبير من المواهب الأجنبية. "سيكون أول مصنع للإنتاج من تي إس إم سي في أوروبا وسيزيد بشكل كبير من مكانة أوروبا وألمانيا وساكسونيا خاصة دريسدن في جميع أنحاء آسيا. لأول مرة، سيفكر كثير من الناس بجدية في الانتقال إلى هنا فعلا".