موجة التكنولوجيا التالية .. الأيادي هي الاستثمار الأمثل

موجة التكنولوجيا التالية .. الأيادي هي الاستثمار الأمثل

في عشرينيات القرن الـ19، طاف وكلاء من شركات في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة حول مدن المصانع في بريطانيا، باحثين عن عمالة مهرة لإغرائهم. اشتكى رب عمل آنذاك من أن الوكيل الأجنبي "ليس عليه سوى أن يراقب بواباتي وهم خارجين وداخلين، ويسجل أسماء الرجال الأكفاء. أبرمت تعاقدات كثيرة بهذه الطريقة".
في ألزاس في فرنسا، في الفترة نفسها تقريبا، كان على صانع الآلات البريطاني جوب ديكسون إحضار خبراء من إنجلترا لتركيب آلات الغزل التي صنعها. قال: "سينجز عاملو الغزل في ست ساعات ما ينجزه عاملوهم في 12 ساعة".
في هذه الأيام العمال البريطانيون أقل إنتاجية في الساعة من نظرائهم الفرنسيين والألمان والأمريكيين. لا أتطرق لهذا لأبث الحزن في الناس في المملكة المتحدة فقط. لكن هذه القصص تلمح أيضا إلى حقيقة مهمة عن التكنولوجيا وكيف تحول الاقتصادات - وهي حقيقة وثيقة الصلة بـ"عصر الآلة الثاني" الذي نشهده اليوم كما كانت وثيقة بالعصر الأول.
طرح مؤرخون أسبابا كثيرة محتملة لسبب حدوث الثورة الصناعية في بريطانيا وليس في مكان آخر، لكن أحد العوامل الرئيسة كان جودة عمال الدولة ومهارتهم. كانوا أصح وأفضل تغذية وأطول من الناس في القارة، واستفادوا من نظام تدريب مرن ساعد على غرس مهارات جديدة بسرعة. هذا يعني أن القوى العاملة البريطانية لم تكن بارعة فقط في ابتكار اختراعات جديدة، بل في تركيبها وصيانتها وتعديلها وتحسينها في المصانع أيضا. ووفقا لورقة بحثية عن التاريخ الاقتصادي: "لم تتطلب هذه الخصال علما غزيرا أو أصالة حتى، بل كانت بحاجة إلى أشخاص بأيد ماهرة تعلموا كيفية استخدامها".
لا يزال القرن الـ21 بحاجة إلى أشخاص يمكنهم توظيف التكنولوجيا الجديدة في استخدامات مفيدة. تظهر ورقة نشرت هذا العام تستعين بيانات من فرنسا أن "التقنيين" - الذين يعملون على تثبيت تكنولوجيا المعلومات وأنظمة التكنولوجيا الأخرى وصيانتها وإدارتها ودعمها - يرفعون الإنتاجية داخل الشركات. هذا لا ينطبق فقط على التقنيين في شركات التصنيع أو وظائف البحث والتطوير، بل أيضا على مجموعة واسعة من المجالات والقطاعات. كما يوجد ارتباط وثيق بين توظيف التقنيين واحتمال أن تقدم الشركة تدريبا على مهارات فنية.
ماذا يعني هذا لبريطانيا، موطن الثورة الصناعية الأصلية، فيما تبدأ الموجة التالية من التغيير التكنولوجي في الارتطام؟ تماما مثل المرة السابقة، لا يوجد نقص في المخترعين العظماء. العام الماضي، تم اختيار المملكة المتحدة رابع أكثر الاقتصادات ابتكارا في العالم بعد سويسرا والولايات المتحدة والسويد، وفقا لتصنيف صادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية.
لكن مجموعة متألقة من أفضل الجامعات والشركات الناشئة جنوب شرق إنجلترا لن تكون كافية.
إذا أرادت المملكة المتحدة زيادة الإنتاج في الساعة بمساعدة الذكاء الاصطناعي والروبوتات، فستحتاج إلى أشخاص بارعين تقنيا يمكنهم تنفيذ هذه الابتكارات في كل منطقة وقطاع، من مصانع موردي السيارات في ميدلاندز إلى شركات التسويق في الشمال.
ازداد عدد الذين يدرسون تخصصات مثل العلوم والهندسة والتكنولوجيا على مر الأعوام، لكن تخصص الشهادة الجامعية الأكثر شيوعا هو "الأعمال والإدارة"، أمر لا يبدو أنه أفضى إلى شركات أنجح أو أكثر إنتاجية (على الأقل حتى الآن).
من جهة أخرى، فإن نظام التدريب المهني - عامل أساس مهم في توفير المهارات التي دعمت الثورة الصناعية - في تراجع بعد إصلاحات حسنة النية، لكنها فاشلة. عدد الذين يبدؤون تدريبا مهنيا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة (البناء والتصنيع وتكنولوجيا المعلومات والعلوم والرياضيات) انخفض نحو 20 في المائة بين 2017 و2018 و2022 و2023 وسط انخفاض عام في الأعداد. والأسوأ هو أن الانخفاض في عدد المتدربين الجدد كان أكثر حدة في أشد المناطق عوزا.
حتى الميزة الأساس التي دعمت "رأس المال البشري" في المملكة المتحدة في الثورة الصناعية، وهي العمالة الأطول والأفضل تغذية من الدول الأخرى، لم تعد واقعا بعد الآن. قد تفكر في أن الطول غير مهم في العصر الرقمي، لكنه مؤشر جيد لظروف معيشة الأطفال مثل جودة التغذية والنوم والتوتر والمرض. في هذه الأيام، الأطفال في سن الخامسة في المملكة المتحدة أقصر في المتوسط من الأطفال من العمر نفسه في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
إذا أرادت الحكومة البريطانية تسخير عصر الآلة التالي لتعزيز الإنتاجية، فلن يكون إصلاح اللوائح وتعزيز الابتكار كافيا. النجاح سيعتمد أيضا على الاستثمار في الأشخاص في جميع أنحاء الاقتصاد حتى يكونوا أصحاء وواثقين ومهرة بما يكفي للاستفادة من هذه الابتكارات.

الأكثر قراءة