الخفض .. معنوي لا سوقي
"أمريكا ستظل أكبر اقتصاد في العالم وأكثره حيوية وابتكارا"
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية
أثار قيام وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، خفض تصنيف اقتصاد الولايات المتحدة من AAA إلى AA+، موجة من الغضب في أوساط المسؤولين الأمريكيين، بصرف النظر عن الآثار الحقيقية لهذا الخفض، وهي تتركز فقط في الجانب المعنوي وليس السوقي. لكن في النهاية خفض تصنيف أكبر اقتصاد في العالم، يعد مؤشرا للاقتصادات الأخرى، على مبدأ، إذا كان هذا الاقتصاد تعرض بالفعل لخفض مستواه الائتماني، فكيف الحال بالاقتصادات الأقل قوة منه على الساحة الدولية؟ ولا بد من الإشارة، إلى أن الخفض المشار إليه ليس الأول من نوعه، بل سبقته خطوة مماثلة من جانب وكالة ستاندرد آند بورز في 2011، وذلك في خضم الآثار السلبية التي تركتها الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008.
خفض تصنيف الاقتصادات الكبرى ليس جديدا. ففي العام الماضي، أكدت وكالة موديز تصنيف الاقتصاد البريطاني عند المستوى السلبي، بسبب عدم الاستقرار السياسي، وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات أعلى من مثيلاتها في الدول الغربية الأخرى. وقبل عشرة أعوام تقريبا، وجهت "ستاندرد آند بورز" ضربة قوية لمنطقة اليورو بخفض تصنيف تسع دول فيها، بينها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، بين درجة ودرجتين، بينما استثنت الاقتصاد الألماني وقتها، الذي ظل محافظا على زخمه الائتماني حتى في الأوقات العصيبة. كما أثار التصنيف الأمريكي الأخير غضب المشرعين الأمريكيين، كذلك انتشرت موجة من الغضب في أوساط الاقتصادات التي تعرضت للخفض. إنها مسألة حساسة، لا ترغب دولة أن تواجهها، خصوصا إذا ما كانت الأمور غير مستقرة تماما، كما هو الحال في الوقت الراهن.
على الرغم من الانتقادات التي لم تتوقف ضد وكالات التصنيف عموما، في أعقاب انفجار الأزمة العالمية 2008، على اعتبار أنها صنفت مؤسسات ومصارف وهيئات مالية كبرى بمستويات عالية، سرعان ما انهارت منذ اليوم الأول للأزمة. على الرغم من ذلك، إلا أن تصنيفات الوكالات الثلاث الرئيسة "ستاندرد آند بورز" و"موديز" و"فيتش"، لا تزال تحظى باهتمام الأسواق وتفاعلها، إلا في حالات محدودة، كما حدث في تصنيف "فيتش" الأخير للاقتصاد الأمريكي. فلم تتأثر أسواق السندات سلبا بالخفض الأخير، وذلك لسبب واحد فقط، هو أن الأسواق باتت متصلة بقوة مع مستويات الفائدة وتحركات البنوك المركزية عموما، ولا سيما مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. فمنذ اتباع سياسة التشديد النقدي على مستوى الاقتصادات المتقدمة، تعرضت أسواق الأسهم والسندات لتراجعات لافتة، في الوقت الذي لا يزال فيه الباب مفتوحا أمام مواصلة هذا التشديد، للسيطرة ما أمكن على الموجة التضخمية.
في كل الأحوال، تخفيض "فيتش" الأخير، لم يقلل من قوة الاقتصاد الأمريكي، فدرجة AA+ هي مرتبة ائتمانية قوية جدا، خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان، قدرة الإدارة الأمريكية على سداد ديونها في المدى المتوسط على الأقل. في حين أن الوكالة الائتمانية نفسها، استبعدت أن يكون للتخفيض تأثير كبير في تدفق الأموال إلى السندات الأمريكية. وبعيدا عن تصريحات وزيرة الخزانة جانيت يلين، التي وصفت فيها خفض "فيتش"، بأنه "يستند إلى بيانات قديمة، ولا يعكس مؤشرات الحوكمة في عهد إدارة رئيسها جو بايدن"، لكن هناك من يرى أن الصراعات السياسية داخل الولايات المتحدة، خصوصا في الأشهر الأخيرة، أحدثت ارتباكا ما على الساحة الاقتصادية، دون أن ننسى المشكلات التي سبقت موافقة المشرعين الأمريكيين على رفع سقف الدين هذا العام، التي شملت خفضا في عجز الميزانية العامة تجاوز تريليون دولار على مدى عشرة أعوام.
لكن مع ذلك، يبقى الاقتصاد الأمريكي قويا من حيث المكانة الائتمانية على الساحة الغربية، غير أن هناك اقتصادات أصبحت تتقدم عليه، بحسب وكالات التصنيف الثلاث الرئيسة، مع اختلاف حجم هذه الاقتصادات مقارنة بـ"الأمريكي". فألمانيا ومعها الدنمارك وهولندا والنرويج وسويسرا ولوكسمبورج وسنغافورة وأستراليا، تتمتع بـAAA، في حين حصلت كندا على التصنيف نفسه من قبل اثنتين من الوكالات الثلاث. ولا شك أن الموقف الأخير لـ"فيتش" من الاقتصاد الأمريكي يستند بالدرجة الأولى، إلى التهديدات المتكررة لقدرة الإدارة على سداد فواتيرها. صحيح أن هذه النقطة أصبحت مع الوقت مثل "المهرجان" الاقتصادي السياسي المحلي، إلا أنها تترك آثارا ليست مناسبة للأداء الاقتصادي العام، رغم أن الاتفاق الأخير يترك الأمر إلى 2025.
وكما هو الحال على الساحة البريطانية العام الماضي، حيث تسبب عدم الاستقرار السياسي من خلال تغييرات الحكومات بفترات زمنية قصيرة جدا، يتسبب الصراع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين في كثير من اللغط في الميدان الاقتصادي، مع اختلافات عميقة في رؤية كلا الفريقين لإدارة الاقتصاد المحلي. وعلى هذا الأساس، لن يكون غريبا فيما لو تعرض الاقتصاد الأمريكي في وقت لاحق لمثل هذا الموقف الذي وصفته جانيت يلين، بـ"المحير"، ولا سيما في ظل تقارب القوة السياسية بين الحزبين الوحيدين، وامتلاكهما أدوات قادرة على إعاقة مسارات الآخر.