الفحم يحترق ويحرق منابرهم

نعيش في عالم متسارع النمو على جميع الأصعدة، يزامنه نمو لافت في عدد السكان، ونمو صناعي قوي، ما يعني بالضرورة أن هناك نموا مطردا في استهلاك الطاقة على مستوى العالم، فالطاقة قلب التطور النابض، وشريان حياة جميع الدول بلا استثناء، فلا ازدهار دونها، ولا مدنية بمنأى عنها. موثوقية واستقرار إمدادات الطاقة العالمية مسؤولية الجميع دون استثناء من منتجين ومستهلكين، وليست حكرا على المنتجين فقط، كما يود تصويره البعض. وعليه، يجب أن يتم التعامل مع الأمن الطاقي العالمي بجدية ونضج سياسي وموضوعية، بعيدا عن المماحكات السياسية والاقتصادية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى.
من المفترض أن تحمل بيوت الخبرة العالمية ومراكز أبحاث الطاقة لواء تعزيز أمن الطاقة العالمي بدراسة واقعه بموضوعية وتجرد، واستشراف مستقبله بحياد، بعيدا عن الأجندات السياسية والاقتصادية، التي ستحيد بمنظومة الطاقة العالمية عن مسارها الصحيح والآمن.
الزخم الإعلامي الموجه الذي يخدم الأجندات قصيرة النظر سيرسخ في ذهن بعض المتلقين أن العلاقة بين مصادر الطاقة تقوم على معادلة صفرية، وأن إقصاء الوقود الأحفوري هو الحل الأمثل الذي يمكن تطبيقه، متجاهلين حقيقة أن العلاقة بين مصادر الطاقة تقوم على مبدأ التكامل والمنفعة الناتجة عن هذا التكامل، ولا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إلى مستقبل الطاقة وأمن الطاقة العالمي بعين واحدة.
هذه "الماكينة الإعلامية" تسعى بكل قوة لترسيخ أن النفط هو المتهم الرئيس فيما يخص الاحتباس الحراري والتغير المناخي، وأن تقويض صناعته وتقويض الاستثمار فيه هما مفتاح الحفاظ على كوكب الأرض من الكوارث.
لا يعتريني شك أبدا أن العقلاء كلهم على كوكب الأرض يسعون بكل جد لحمايته وسلامته والحفاظ عليه، لكن هناك من ينظر لهذا الملف المهم جدا بموضوعية وتوازن، وهناك من يتعاطى معه بتناقض مزعج لخدمة مصالح آنية ستتجرع منظومة الطاقة العالمية مرها على المديين القريب والمتوسط إذا ما استمروا في نهجهم.
من يتابع الإعلام الموجه ضد النفط، يعتقد لوهلة أن العالم قد تخلص نهائيا منذ عقود عن استخدام النفط في توليد الطاقة، لكن الواقع يخالف ذلك تماما، حيث إن الفحم ما زال مصدرا رئيسا من مصادر الطاقة في العالم، بل سيبقى كذلك في المدى المتوسط، بحسب بعض الدراسات الاستشرافية، ما يعني أن العالم في حاجة ماسة وحقيقية إلى رفع كفاءة إنتاج واستهلاك الطاقة، لا إقصاء بعضها أو محاربته. على سبيل المثال، الصين أكبر مستهلك للطاقة وأكبر مصدر للغازات المسببة للاحتباس الحراري في العالم، بحسب لجنة المناخ التابعة للأمم المتحدة، حيث تهدف الصين إلى رفع انبعاثات الكربون إلى ذروتها بحلول 2030 وإلى الصفر بحلول 2060، وأنها لن تبدأ في خفض استهلاك الفحم حتى 2026، بعيدا عن قضايا البيئة والتغير المناخي والاحتباس الحراري. وبعيدا عن تعاطي الصين مع هذا الملف، هل تستطيع الصين الاستمرار في تطورها الصناعي اللافت بلا وقود أحفوري؟ هل تستطيع الصين الاستمرار في نهضتها الصناعية بالاعتماد على الطاقة المتجددة فقط وهي من الدول الرائدة في هذا المجال؟
في رأيي، أن الصين وغيرها من الدول منتجة كانت أو مستهلكة، بحاجة ماسة إلى جميع مصادر الطاقة في ظل هذا النمو والتطور المتسارع الذي تم ذكره سابقا، ما يعني أن ما يثار حاليا حول تقويض صناعة المنبع ليس طرحا موضوعيا ولا منطقيا وسيصطدم بالواقع، وأن الأهم هو الوصول إلى مزيج متوازن للطاقة يلبي حاجة الشعوب، ويراعي غيرها من العوامل في الوقت ذاته بلا ضرر ولا ضرار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي