الأخبار .. سلعة رائجة تهددها التقنية بالتخمة

الأخبار .. سلعة رائجة تهددها التقنية بالتخمة

كثر الحديث أخيرا عن تراجع الاهتمام بالأخبار، أو بتعبير أدق تجنب الأخبار، حتى قيل إن البشرية تدخل حقبة نهاية الأخبار. فأحدث الدراسات تفيد بتراجع عدد المهتمين بالأخبار حول العالم خلال الأعوام الستة الماضية، وسجلت نسبة الجمهور المهتم انخفاضا من 63 في المائة في 2017 إلى 43 في المائة العام الماضي. وأضاف الاستبيان ذاته أن 36 في المائة من الناس في جميع أنحاء العالم يتجنبون الأخبار في كثير من الأحيان، وعبر 72 في المائة من الناشرين عن قلقهم من ظاهرة تجنب الأخبار، ولا سميا التغطيات الصحافية للأحداث المهمة غير السارة.
وكتبت الأمريكية أماندا ريبلي في آب (أغسطس) 2022، في صحيفة "واشنطن بوست"، "أنا صحافية توقفت عن قراءة الأخبار.. المشكلة فيني أو في المنتج؟"، معلنة تخليها عن عادة استهلال اليوم بقراءة الأخبار، بعدما أيقنت أن العجز عن الكتابة أو مزاولة أي عمل إبداعي متولدة عن طوفان الأخبار الذي تتعرض له كل صباح. وزادت بأن عددا من زملائها في المهنة بدورهم تخلوا عن عادة قراءة الأخبار، رغم انتمائهم إلى قبيلة الصحافة.
تبقى المفارقة في كون الظاهرة تنامت في زمن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية، فالفضاء الإلكتروني سهل التواصل إلى أبعد الحدود، ويسر التفاعل وتبادل الآراء وحتى اكتساب المعارف بشكل غير مسبوق. وأضحت البيانات والمعلومات نفط العصر الرقمي، ما يرفع من قيمة الأخبار، خاصة بعد تجاوز وسائل الإعلام الوظيفة التقليدية نحو أدوار جديدة مرتبطة بالبحث والتحليل والتفسير والتحقيق، حتى قيل إنها أضحت "السلطة الأولى" في الحقبة الرقمية.
جدد ذلك النقاش بشأن وظيفة الإعلام بين قائل إن المهمة مقتصرة على الأخبار فقط، ورى آخر أن المسألة تتعدى نقل الخبر نحو البحث عن الحقيقة، فالخبر لذاته ليس مهما ما لم يغربل وفق ضوابط معينة. قيود تراجع العمل بها بشكل لافت، في الأعوام الأخيرة، فالمهنية والجودة والمصداقية آخر ما يطلب، بعد انخراط الأغلبية العظمى في موجة البحث عن الإثارة واستمالة الجمهور، لدرجة أضحى معها العثور عن الخبر وفق المواصفات المتعارف عليها أمرا صعبا، باستثناء أقلية من المؤسسات الإعلامية التي لا تزال متمسكة بأدبيات العمل الصحافي.
تحولات وضعت الإنسان أمام تسونامي من الأخبار يوميا، ما انعكس على الشغف بالأخبار الذي رافق الفرد منذ قدم الأزمان، فالأخبار للعقل مثل السكر للجسم: شهية وسهلة الهضم، لكنها مدمرة على المدى الطويل. عن هذه المعضلة كتب الكاتب رولف دوبيلي قائلا، "خلال 12 شهرا الأخيرة، من المحتمل أنك استهلكت عشرة آلاف قصة خبرية، بمعدل 30 خبرا في اليوم.. كن صادقا وأمينا مع نفسك، ضع عنوانا واحدا من هذه الأخبار، واحدا فقط، جعلك تتخذ قرارا أفضل لحياتك أو لمهنتك أو لتجارتك، مقارنة بما لو لم تسمع تلك الأخبار. لا يوجد شخص سألته قد تمكن من تسمية أكثر من قصتين خبريتين مفيدة من بين عشرة آلاف قصة".
غطس البشر في عوالم الأخبار حتى أصيب بداء "التخمة الإخبارية"، فالبقاء على اتصال باستخدام الهواتف المحمولة التي بلغ عددها نحو 7،72 مليار هاتف في العام الحالي، يقدم بشكل من الأشكال محتوى خبريا، يستعاض به عن الأخبار الكلاسيكية. وتحدث التقرير السنوي عن "الأخبار الرقمية" (2022) الصادر عن مؤسسة رويترز عن تراجع الثقة بالأخبار التقليدية، في كل مكان تقريبا. ويعزى ذلك، بحسب القائمين على التقرير، إلى التكرارية والاجترار وغياب الثقة بالتغطية الإعلامية. ورصد القرير أيضا ما أسماه ظاهرة "الإنهاك الخبري" مع تزايد أعداد الراغبين في تفادي متابعة الأخبار بشكل عام.
وشهدت دول عدة، في الآونة الأخيرة، تنامي ظاهرة السأم من اشتراك الخدمات الإخبارية المدفوعة، فقد بدا واضحا اتجاه أغلبية الأفراد نحو تفضيل الدفع مقابل خدمات ترفيهية، فـ7 في المائة فقط من المستجوبين يفضلون الحصول على اشتراك سنوي في منصات الأخبار الرقمية، بينما 37 في المائة اختاروا منصات الفيديو الرقمية "الأفلام والمسلسلات..."، تليها في المركز الثاني المنصات الموسيقية بنسبة 15 في المائة.
يسود الإجماع في أوساط خبراء الإعلام بكون الظاهرة نتيجة طبيعة لما يمكن تسميته بإشباع السوق، فالتعرض اللا إرادي للأخبار على مدار الساعة، بسبب الالتصاق بالشاشات، يوجد حالة من الإشباع الخبري التي تؤدي إلى التخمة الخبرية في أحيان كثير. مع الإشارة إلى أن الحديث هنا ليس بالضرورة عن الأخبار في قالبها التقليدي، فالإنسان المتصل شبكيا يبقى مستهلكا لأنواع معينة من الأخبار حتى لو لم يدرك ذلك.
ما يعني أن الأخبار كسلعة كانت ولا تزال سلعة رائجة وتجارة لا تبور، يبقى المتغير فقط في مضمون المادة الخبرية. وهذا تثبته الدراسات والتقارير، فالعزوف عن الأخبار وثيقة الصلة بالجيل Z الذي فتح أعينه على السيولة الإعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، عكس باقي الأجيال التي عاصرت زمن الندرة والقلة، فمصادر الخبر محدودة في صحيفة ورقية، تقتطف من الكشك مثل الوردة قبل ذبول موادها الإخبارية، أو في نشرة إخبارية في التلفزيون أو المذياع محددة المواعيد، وغير قابلة لإعادة الاستماع أو المشاهدة.
سقطت كل هذه القيود في الحياة المعاصرة، حيث انقلب الوضع رأسا على عقب بفضل الثورة الرقمية، إذ صار بمقدور إنسان القرن الـ21، متابعة الأخبار قبل النوم أو عند ركوب وسائل النقل أو خلال تحضير الطعام... فشعار المرحلة "نشرتك عندنا وقتما تحب".
أخيرا، نشير إلى سبب إضافي لتراجع الاهتمام بالأخبار قلما يلتفت إليه، تحدث عنه خبراء وكالة GWI الأمريكية المختصة في أبحاث التسويق، إنه الانخفاض في مقدار الوقت الذي يقضيه الناس على الإنترنت، فالنسبة تفيد بتراجع قياسي بلغ 13 في المائة، بعدما وصلت الإنترنت ذروتها خلال فترة الإغلاق أثناء انتشار وباء كورونا. ما يعكس القلق الذي بات يراود الأفراد من استخدام الإنترنت.

سمات

الأكثر قراءة