هل العولمة بريئة من قضايا انعدام الأمن الاقتصادي؟

هل العولمة بريئة من قضايا انعدام الأمن الاقتصادي؟

في أوائل 2009، عندما نزلت من طائرة لمباشرة عملي منتدبة في واشنطن، بدا أن المدينة تفور بالطاقة. كانت الولايات المتحدة في حالة ركود، لكن باراك أوباما قد أصبح لتوه رئيسا بعد حملة وعدت "بالأمل والتغيير". تذكرت تلك الأيام في الآونة الأخيرة عندما ذهبت راشيل ريفز، مستشارة حكومة الظل البريطانية، إلى واشنطن لإلقاء خطاب بدا أنه يستفيد من روح العصر السياسي الجديدة، وهو نهج أطلقت عليه اسم "الأمن الاقتصادي".
فبعد أعوام من النمو الاقتصادي البطيء، وجائحة عالمية، وحرب في أوروبا، لم يعد الناس في مزاج رائع للإيمان برؤى عظمى، وتوسط الساسة في خطاباتهم وفقا لذلك. بل يبدو أن وعودهم قد تراجعت إلى أسفل هرم ماسلو للاحتياجات لتستقر عند الضروريات الأساسية للحياة. الأمل والتغيير خارجها، وأصبح "الأمن" من بينها.
قالت ريفز في كلمتها إن العالم يعيش في "عصر انعدام الأمن" تأثرت فيه دول مثل بريطانيا "بقوى عالمية". كانت حلولها لهذه المشكلة مشابهة جدا للحلول التي قدمتها إدارة بايدن: الاقتصار على العمل مع الحلفاء على العولمة، والسياسة الصناعية على سياسة عدم التدخل، المرونة على الكفاءة. قالت، "آن الأوان لكي نعترف بأن العولمة، كما عرفناها ذات مرة، قد ماتت".
أرى أن التشخيص صحيح. لكن فيما يتعلق بالاقتصاد، فلست مقتنعة تماما بالعلاج. إن انعدام الأمن مشكلة حقيقية وعويصة فعلا في دول مثل المملكة المتحدة، لكن من الصعب أن نفهم كيف يقع اللوم على العولمة.
لنبدأ بسوق العمل، حيث البطالة منخفضة 4 في المائة فقط وانخفضت نسبة الوظائف المصنفة على أنها "متدنية الأجر" إلى أدنى مستوياتها منذ بدء سلسلة البيانات في 1997. إنها قصة نجاح بحسب عدة مقاييس. لكن إذا نظرنا إليها من خلال عدسة انعدام الأمن بدلا من الدخل، فهناك تفاوتات عميقة تتسع بين العمال الذين لديهم دخل ثابت والعمال الذين ليس لديهم.
في ورقة بحثية حديثة، وظف الاقتصاديون التعلم الآلي لتحليل 46 مليون إعلان وظيفي في المملكة المتحدة بين 2014 و2019. وجدوا "تحولا كبيرا في نظام العمل" أدى إلى "صورة مستقطبة"، إذ إن احتمال أن تكون الشواغر ذات الأجور المتدنية مرنة وغير مدفوعة الأجر ودون ساعات دوام كامل أو عقد دائم أكبر على نحو غير متناسب. على النقيض، عندما تم الإعلان عن عمل مرن للعمال ذوي الأجور الأعلى، كان احتمال أن يكون براتب ثابت أكبر، ما يعني تمتع هذه المجموعة بمزايا المرونة إلى جانب ضمان الأجر الثابت.
هناك طرائق أخرى يمنح بها النظام أكبر قدر من الأمن للعمال الذين هم في أدنى حاجة إليه. وفقا لاستطلاع حديث، قال 12 في المائة فقط من العمال الذين يزيد دخلهم على 60 ألف جنيه استرليني، إنهم لا يتوقعون أن يتقاضوا أجرا إذا فاتهم يوم عمل غير متوقع بسبب حالة طوارئ عائلية، مقارنة بـ56 في المائة من العمال الذين يكسبون أقل من 20 ألف جنيه استرليني سنويا. وتشير البيانات الحكومية إلى أن 75 في المائة من المديرين يستحقون أجرا في الإجازات المرضية حسبما تضمنه لهم أنظمة الشركات، مقارنة بأقل من نصف العاملين في مهن الرعاية والترفيه وغيرها من مهن الخدمات.
يتزايد انعدام الأمن أيضا في سوق الإسكان، حيث تعيش نسبة متزايدة من الأسر المعيشية ذات الدخل المنخفض في قطاع الإيجار الخاص الأقل أمانا. معدلات إيجار القطاع الخاص للبالغين ذوي الدخل المنخفض الذين ولدوا في الستينيات أو قبلها تراوحت بين 5 و20 في المائة في كل عمر تقريبا، وفقا لمعهد الدراسات المالية. أما أولئك الذين ولدوا في السبعينيات فتراوحت المعدلات بين 25 و30 في المائة تقريبا، أما الذين ولدوا في الثمانينيات فهي بين 40 و50 في المائة تقريبا.
الأمن موزع بتفاوت أيضا فيما يتعلق بالضروريات مثل الكهرباء والغاز. في حين أن معظم الأسر تدفع مقابل الطاقة في اقتطاعات مباشرة شهرية ميسرة، يتعين على بعضها الدفع مسبقا مقابلها على العدادات، والتي تعني تكاليف متقلبة لا يمكن التنبؤ بها بناء على الطقس، فضلا عن الحمل الإدراكي الإضافي في تذكر الدفع مسبقا قبل مغادرتك للتأكد من أن الأشياء المجمدة في الثلاجة لن تذوب.
ذات مرة أوضحت لي مستشارة في مكتب استشارات سيتزن أدفايس في بلاكبول أن هذه المشكلات تراكم بعضها بعضا. قالت، "دخلك غير مستقر، إذا عملك غير مستقر، وسكنك غير مستقر. كل شيء مبني على أساس واه من الرمال." وكما يجادل جرايم كوك في مقال لمؤسسة جوزيف راونتري، فإن إعطاء الناس شعورا بالأمن يمكن أن يوفر "قاعدة نفسية، وكذلك مادية، ليتحمل الناس المخاطر، ويفكروا على المدى الطويل، ويستثمروا في أنفسهم وأسرهم".
توجد إذن حجة قوية لمعالجة انعدام الأمن سعيا وراء مجتمع أكثر سعادة وصحة وإنتاجية.
لكن كم من كل هذا هو خطأ "القوى العالمية"؟ هل نهضة الصين هي المسؤولة عن عدادات الدفع المسبق في المملكة المتحدة؟ هل تسببت العولمة في نقص الإسكان ميسور التكلفة؟ قد يكون لتبني سياسة الاقتصار على الحلفاء أسباب وجيهة تتعلق بالأمن القومي. ومن المؤكد أن سياسة صناعية توفر فرص عمل لائقة للمناطق غير الصناعية ستساعد تلك المجتمعات. لكن عندما يتعلق الأمر بانعدام الأمن اليومي الذي يتجذر في بريطانيا، فإن معظم المشكلات تكمن في بريطانيا ذاتها.

الأكثر قراءة