رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ماذا تخسر الأمم بانغلاق العقول؟

إلى وقت ليس ببعيد أعرف شخصا لم يأخذ بمعطيات التقنية الحديثة، فلا جوال، ولا بطاقة صراف، وكان يعتمد الطريقة القديمة في سحب المال، حيث يذهب إلى البنك ويعبئ النموذج الخاص بذلك، أو يكتب شيكا. وقدر لي أن سألته عن سبب ذلك، فلم أجد عنده إجابة شافية تبرر مثل هذا الوضع المعيق الذي يحرمه استخدام التقنية ويسهل عليه الحياة، هذه المنتجات التقنية القيمة التي أراحت الناس، ووفرت الوقت والجهد بدل الذهاب إلى المصرف، على سبيل المثال لا الحصر. والشيء بالشيء يذكر كانت الرواتب تصرف نقدا مع ما قد يترتب على ذلك من أخطاء، أو أخطار ضياع، أو سرقة، إلا أن التقنية سهلت المهمة من خلال التحويل، ليس بين المؤسسة، والعاملين فيها، بل بين الناس جميعا في مشترياتهم، وتعاملاتهم، وتجارتهم الدولية بدل الشيكات العادية أو السياحية، كما كان الحال مع المسافرين، والعاملين في التجارة.
قبل الجوال كنت معزوما على الغداء، وكان المعتاد في ذلك الوصف لمعرفة العنوان، ولتشابه الحارات والشوارع وكذلك البيوت ولون الأبواب تهت الطريق، وأمضيت ما لا يقل عن الساعة أبحث عن البيت، ومع ذلك لم أوفق، وأذن العصر، واضطررت إلى إنهاء عملية البحث ليأسي في الوصول، ويأس المضيف في إمكانية حضوري، إذ أدرك أن أمرا ما حدث. مع الجوال يمكن الاتصال، والوصول إلى المكان من خلال أخذ الوصف، ومع المعلم "جوجل" وخرائطه تيسرت الأمور، وأصبح دليلا مجانيا يسر على الناس تنقلاتهم، وقضاء حوائجهم بيسر وسهولة.
التفسير المنطقي السيكولوجي لحالة صاحبي الذي أشرت إليه يتمثل في حالة الخوف والرهبة التي يشعر بها في التعامل ليس مع التقنية فحسب، وإنما مع كثير من المستجدات في الحياة، ويصاحب الرهبة شعور بالتوجس وعدم رغبة في التغيير والانتقال من حال إلى حال جديدة مختلفة تماما عن ذي قبل، وكأنه يقول مالي ومال هذا الجديد الذي يبعدني عما ألفته، واعتدت عليه، وكأنه بهذا التغيير يفقد شيئا ثمينا بالنسبة إليه، ولا يعلم أنه يضع على كاهله حملا ثقيلا معيقا له في الحياة، مانعا له من الاستمتاع بما توافر للبشرية من منتجات حديثة.
ألفة القديم ليست بالشيء الجديد، وإنما عاشها ويعيشها الناس في كل العصور والأوطان، ففي أوروبا حاربت الكنيسة العلم الحديث والتجارب، كما عانى الأنبياء -عليهم السلام- مع أقوامهم الذين كانوا يردون على دعوتهم بقولهم، «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون»، وهذا يكشف أن حالة الجمود الذهني حين تهيمن على الفرد أو الجماعة تمنع من إدراك الحقيقة، وتحول دون إدراك المتغيرات المحيطة، وكأن الفرد في هذه الحالة يقول: لا أرى ما يحدث من حولي.
هل ما ينطبق على الأفراد ينطبق على المؤسسات؟ نعم، فالمؤسسات ليست مبنى ومكاتب، وإنما يعمل فيها بشر لهم عقول ومشاعر وخبرات، فإما أن تكون العقول مستنيرة متفتحة على العالم والبيئة المحيطة بها، أو تكون مغلقة على ذاتها لا تعلم وربما لا تقبل التجديد والتفاعل مع المتغيرات، كما أن الخبرات المتراكمة تكون ذات نمط واحد، ونتاج فلسفة إدارية عقيمة، وهذا ما يفسر خروج بعض المؤسسات من ميدان العمل، وإن استمرت تبقى ليس لها تأثير في محيطها، لتكون نهايتها الموت البطيء.
حالات كهذه أفرادا ومؤسسات تشبه أهل الكهف حينما أفاقوا من نومهم، وأرادوا شراء الطعام أرسلوا أحدهم بالنقد، وأوصوه بالتكتم على وضعهم، حتى لا ينكشفوا ويتأذوا من جراء ذلك، ولم يعلموا أن قومهم قد تبدلوا وتغيروا ولم يعودوا يحاربون الدين، إلا أن مشكلة بعض موظفي المؤسسات أنهم يعيشون داخل مؤسساتهم ظنا منهم أنهم يمارسون أفضل الممارسات، وهذا لا يفسر إلا من خلال الانغلاق والعجز عن مسايرة المستجدات والاعتقاد الخاطئ أنهم قدوة للآخرين، حقا هؤلاء يعيشون داخل كهوف ليست لها نوافذ، وإن وجدت، يجبنون عن فتحها، خوفا من أن يزكمهم الهواء الطلق، أو تتعبهم الشمس الساطعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي