«خدش عظم الحياة» .. أدباء يسابقون خيول الزمن لإدراك المعنى
يمسي اختيار الكتب مثل اختيار رفيق دربك أو صديق عمرك، سلسلة خطرة من مفترقات الطرق، بهذه المقولة للكاتب الأمريكي جون كوبير بويس يبدأ كتاب "خدش عظم الحياة" تأملاته، التي تعد وصفة لمشكلات العالم وفوضاه، وقراءة لحياة الإنسان القصيرة وقيمتها وسط كوكب يموج بالاضطراب. الحياة، وفقا لقراءات الكتاب من الفكر الغربي، أقصر من أن ترسم في صورة سردية مريحة، وهي خيالية أكثر من الروايات، تستحيل حقائق الحياة بسرعة خاطفة إلى حالة من التخمر والتحلل، بحيث لا تقوى على الصمود في الكتب الضخمة الثخينة. وفي حياتنا يلجأ الناس إلى الكتب والروايات والمقالات وبشتى لغات الأرض كمحاولة لتقديم إجابة عن سؤال: ما مغزى الحياة؟
الحياة خلو من المعنى
يقول أحمد الزناتي في كتابه وترجماته إنه اكتشف أن غاية بحثه في الكتب هو أن يعلم نفسه حسن العيش وحسن الممات، في تأملات قاربت أعمالا فكرية وأدبية، أغلبها مترجم عن الألمانية أو الإنجليزية، أمضى مع مؤلفيها - قارئا ومترجما - وقتا ممتعا، وهي تأملات ترمي لإسباغ معنى ما على الحياة.
ويلفت المترجم الزناتي أن عنوان الكتاب "خدش عظم الحياة" هو بالأصل عنوان مقالة عن الكاتبة الأمريكية البلغارية الشابة ماريا بوبوفا، فهي قراءات تنشد الاقتراب على استحياء من محاولات الكاتب الفرنسي الشهير دي مونتيني لخدش عظم الحياة المتيبس واستثارته لينطق ويضفي على حياتنا معنى.
عن منشورات حياة، يقع الكتاب في 222 صفحة، ويقدم خلاصة أفكار الأدباء عن فن العيش، وينقل عن عالم الميثولوجيا الأمريكي الأشهر جوزيف كامبل ملاحظة لافتة، وهي أن الحياة في ذاتها بلا معنى، نحن من نكسب الحياة معناها.
العالم في كتاب
كيف نرغب عوالم الكتب إلى الناشئة؟ وكيف نشرح بشكل مبسط أنهم سيحتاجون في مدة ما من حياتهم إلى أسلحة خفيفة لمواجهة الدنيا؟ يضع الكاتب يديه على الإجابة مستعينا بإجابات رسمها مؤلفون ومبدعون في كتبهم، ومنهم الكاتب الإنجليزي نيل جايمان الذي يرى أن الكاتب بمقدوره أن يضع العالم كله داخل الكتاب، بإمكانك السفر بعيدا وتعلم الأشياء وأنت في الطريق، وبإمكانك رد تلك الأشياء إلى العالم الذي تعيش فيه حياتك المعتادة، بإمكانك أن تنظر مستخدما عيني شخص غريب، وأن تفكر أفكاره وأن تهتم بما يهتم به، بإمكانك الطيران والسفر إلى النجوم، بإمكانك أن تصير وحشا أو ساحرا، بإمكانك أن تكون فتاة وأن تكون صبيا، تمنحك الكتب فرصا غير محدودة.
بحسب الوصفة الشيقة والداعية للقراءة، فإن كل ما ينبغي لك فعله هو أن تبدي اهتماما كافيا لقراءة الصفحة الأولى، في بقعة ما كتاب مكتوب خصيصا لأجلك أنت، كتاب يناسب عقلك مثلما يناسب زوج القفازات يديك، وهذا الكتاب جالس في انتظارك، فلتذهب وتبحث عنه.
العزلة تنير بصيرتنا
قد تكون العزلة بوابة سحرية للتواصل مع العالم كله، فهي تنير بصيرتنا، ويلفت الكتاب إلى أن تكون على قيد الحياة يعني أن تحيا داخل جسد، وهو جسد منفصل عن بقية الأجساد الأخرى، والانفصال هنا يعني أن تكون وحيدا، وإذا انطبق هذا على سائر المخلوقات، فإنه يصدق على الإنسان أكثر من غيره، فالإنسان ليس وحيدا وحسب، بل إنه يدرك حتمية وحدته، وإدراكا لما هو عليه يسأل سؤال وحدته، أي يسأل: لم هو وحيد؟ وكيف ينتصر على تلك الوحدة؟ وهو لا يطيق صبرا على هذه الوحدة ولا يستطيع منها فكاكا.
قدر الإنسان أن يكون وحيدا، وقدره أن يعي ذلك، وبحكمة بالغة لمست اللغة جانبي الوحدة والعزلة، فـ "الوحدة" تعبيرا عن ألم كون الإنسان وحيدا، في حين ابتكرت كلمة العزلة تعبيرا عن مجد أن يكون الإنسان وحيدا.
ومن يتوق إلى أن يصير مبدعا في أي من مجالات الحياة، لن يحقق مبتغاه دون العزلة، ساعة واحدة من العزلة الواعية ستثري من إبداعه أضعاف ما تصنعه ساعات طويلة يقضيها في محاولة تعلم العملية الإبداعية.
"فقر العزلة هو الغنى".. ساعة واحدة من العزلة قادرة على أن تقربنا إلى من نحبهم قربا، بشكل أشد مما كان سيحدث لو أمضينا معهم ساعات طويلة من التواصل.
لا أحد يكسب اللعبة
مثلما وجد البعض الحياة كلها عبثا لا طائل من ورائه، أدرك آخرون أن معنى الحياة مرهون بالقدرة على الحب، وعند الكاتب تيري إيجلتون فإن معنى الحياة هو عيش الحياة نفسها بعد إدراكها بطريقة معينة، ولا يقول صراحة إن معنى الحياة هو الحب، وإن لمح ذلك على استحياء، فعندما تكرس حياتك لرعاية طفل معوق مثلا فإنك تضحي بوقتك وسعادتك وتحقيق ذاتك، وقد يؤدي القتال من أجل العدالة كمعنى منشود للحياة إلى الموت، فهل معنى ذلك أنك تقاتل لأجل شيء بلا معنى وهو الموت؟ بالطبع لا، ثمة معنى، لكنه ليس معنى ماديا ذا نفع مباشر.
في كتاب "خدش عظم الحياة" الممتع تأملات في مغزى الحياة، ولا أجدى من رؤية الناقد والمحلل الأدبي الأمريكي الأشهر هارولد بلوم عن دور القراءة في ذلك كله، إذ تعينه على البقاء على قيد الحياة، راسما صورة مجازية، لن تطيل القراءة من عمره دقيقة واحدة، في حين أن المواظبة على التمارين البدنية ستفعل بالتأكيد، ولكن لو أردنا للحياة أن تغدو أكثر من كونها أنفاسا تدخل وتخرج، فإن علينا تعزيزها بمزيد من المعرفة أو بنوع الحب الذي هو شكل من أشكال المعرفة.
في نهاية المطاف، يرى أحمد الزناتي بألا تأخذ الحياة نفسها مأخذ الجد، بمعنى ضرورة أن تصل وتنجز وتتفوق على غيرك، لأنك ستدرك في لحظة ما أن كل ذلك قبض الريح، بل أن تأخذ مهامك البسيطة ومسؤولياتك إزاء الآخرين محمل الجد، لا أحد سيكسب اللعبة 100 في المائة، المهم أن يصل المرء إلى شيء يعرف به كل شيء "وهنا يغدو العالم كله عمل فني.. نحن الكلمات، نحن الموسيقى، ونحن الشيء نفسه".