في تاريخ الكذب .. الفن والأدب مجرد انتحال
زج بالإنسان في مؤامرة من الأكاذيب، في عالم يتكيف مع الكذب، وفي مجتمع مبني على الأكاذيب، لذا فإن جميع الأنشطة الإنسانية مرتبطة بفعل الكذب.
بهذه النتيجة خرج كتاب "تاريخ الكذب"، لمؤلفه خوان خاثينتو مونيوث رنخيل، الذي يناقش الكذب وأثره في التاريخ، والإنسان، والاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة، والفلسفة وعلم النفس، والفن، والسينما، مرورا بالحروب والأساطير والأديان والعلوم، وصولا إلى ما بعد الحداثة وشبكات التواصل الاجتماعي، متساءلا: ماذا يكمن وراء كل هذا الوهم؟
الكذب جوهر كل شيء
في علم الإنسانيات، صدر كتاب "تاريخ الكذب" في طبعته العربية الأولى في 2022، للكاتب خوان خاثينتو مونيوث رنخيل، ترجمه عن اللغة الإسبانية طه زيادة، الذي كتب في مقدمته أن هذا العمل الإنساني القيم بأفكاره وتأملاته العديدة والكثيفة يستحق كل جهد الترجمة المبذول فيه.
يحلل الكاتب الكذب تاريخيا واجتماعيا وفلسفيا وأدبيا، يشعرنا بأن الكذب في كل شيء من حولنا، حتى الحقائق العلمية التي بدأت من العدم ككذبة، والخرافات، وحتى أبسط الحكايات، وأعقد القصص وأكثرها تداولا وإثباتا، ويخوض الكتاب بقارئه في أكاذيب الفلسفة، وحتى أكاذيب الإلحاد، إذ يرى أن الملحد يكذب عندما يدعي أن الخالق غير موجود، فيكفي أن يتوافر لدينا إدراك علمي عن الخالق لدحض الفكرة.
وفي السياسة أيضا، أكد شخص ذات مرة أنها فن إقناع الشعب بأباطيل صحية، لأجل غاية نافعة، ومنذ ظهور السياسة، ظهرت قضية إخفاء الحقيقة عن الناس من أجل مصالحهم الشخصية، في قضية سابقة على عصر التنوير، أرقت عقول المفكرين منذ جمهورية أفلاطون.
الكذب ضروري وصحي للغاية
ينطلق رنخيل بكتابه بدءا من القرن السادس قبل الميلاد، حينما عاش فيلسوف وشاعر يوناني اسمه أبيمنيدس الكريتي، وكان أول من سلط الضوء على الإشكالية الملازمة لكل راو، والمتمثلة في احتمالية الراوي الكاذب، ويرى أن الطبيعة نفسها تكذب، والحرباء هي المثال الأكثر شهرة لخاصية التمويه، وإن لم يكن أمامها فرصة الاختيار، وكذلك الأفاعي التي تتخذ هيئة الشعاب المرجانية الوادعة، والطيور التي تبني عشا بين الصخور وتحمي البيض عن طريق إصدار صوت مشابه تماما للحية ذات الأجراس.
وبناء عليه، فإن الكذب كان موجودا في الطبيعة سابقا بكثير على ظهور اللغة، وسابقا على ظهور الإنسان بكثير، لكن الأخير يجيد الكذب أكثر من أي جنس آخر، ويتميز عن غيره بأنه يتمتع بقدرة أكبر على صياغة الأوهام، في عالم وكون أثبت في الكذب أنه عامل تنظيم وفعل يحظى بتقدير، دفعته هذه القدرة على الخداع إلى إخضاع غيره من جميع الكائنات الحية، وإلى سيطرة مؤقتة "بالقوة أكثر من العقل" على محيطه.
لاشك أن العقل مصمم للحفاظ على التوازن، والكذب ضروري للغاية، وصحي للغاية في بعض الأحيان، على حد تعبير الكاتب الإسباني، لدرجة أنه ينظم أجهزتنا في أوقات الأزمة، إذ تعتمد الأجسام القوية والصحية على عقل سعيد ومخادع لذاته.
الفن أداة للكذب
لخوان رنخيل رأي قاس فيما يتعلق بالفن، إذ يرى الفن كذبا على كذب، ويجب على الفنان أن يظل واعيا دائما أنه كاذب يكذب من أجل الكذب بمنتهى الصدق، والفنان الذي ينسى وهمه ويعتقد أن عمله مماثل للواقع أو أكثر واقعية من ذلك الذي يعيد تصويره، فإنه بذلك ينزلق إلى خداع الذات ويحط من شأن الفن.
يجد الفنان المتعة في إبداع أوهامه واعيا أنها أوهام، وأن يكون لدى مستقبلي العمل الفني أيضا القدرة على استخلاص المتعة من الكذب، أما في الأدب، فالأمر سيان.
كل أدب هو انتحال، مستشهدا بالروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي ألف قصة بصيغة ملخص لرواية لا وجود لها "الاقتراب من المعتصم"، نجح من خلالها في خداع أصدقائه أنفسهم على مدار أعوام، إضافة إلى أعمال لكتاب آخرين تتمحور حول تحليل نصوص لم تكتب مطلقا.
وإذا أراد الكاتب فوق ذلك التدليس على نفسه، فمبقدوره أيضا القيام بذلك، فمن ناحية، تقتضي تقنيات السيرة الذاتية الخيالية بالضرورة تشويه وتزوير الأنا، لتذوب شيئا فشيئا في القصة حتى تتلاشى في سياق كلي، يتماهى فيه الواقع والخيال بنسب متساوية، وبلا تمييز، من ناحية أخرى، ستظل متاحة للكتاب دائما فرصة مواصلة بناء شخصية مستوحاة منهم في كل مقابلة يمنحونها لوسائل الإعلام، لينقسموا على أنفسهم من جديد، ويتناءوا أكثر فأكثر عن هوياتهم الحقيقية.
ولكن هل حقا كل شيء مباح؟ ألا توجد حدود أمام أساليب الخداع الأدبية؟ نعم توجد بالطبع، يجيب رنخيل.
العلم والحب لم يسلما من الكذب
حتى العلم لم يسلم من الكذب، فالكاتب يؤمن بأن العلم يكذب حين يدعي أنه يدرك الحقيقة، لا وجود لما نطلق عليه الحقيقة، وإنما من خلال العلم يمكننا التوصل إلى فهم أكثر دقة بصورة أكبر لماهية الطبيعة بالنسبة إلينا، لكن يتعين علينا التخلي عن فكرة أن العلماء يقتربون أكثر فأكثر من الحقيقة، لأن فرضياتهم تعتمد دائما على السياق الذي طرحت من خلاله، ولا تعد العملية العلمية بمنزلة تطور نحو الحقيقة التي ننشد معرفتها، بل عملية بناء متحيزة تقوم على القدر الضئيل الذي نعرفه.
وسط وهم العالم، وخدع الثقافة، وزخرف المدن العالقة في فخاخ الكذب، فإن الحب أيضا كذب، إذ لا توجد لحظة أخرى في حياتنا نكون فيها ضحايا للخداع إلى هذا الحد، مثل تلك التي يتمكن فيها الحب منا.
عن دار الخان للنشر والتوزيع صدر الكتاب في 280 صفحة، ويوحي لنا كاتبه بأن الكذب متجذر في شتى تفاصيل حياتنا، يذكر معلوماته وفلسفته مستدلا بالأمثلة والبراهين والقصص والحكايات، ومستعينا بقائمة واسعة من المراجع العالمية، دون أن يجبر قارئه على أن يصدقها كلها، لكنه كاتب حكاء، قادر على الإقناع والإمتاع، ويؤمن بأنه "لا ينبغي لأحد أن يفرض علينا وهما، نحن جميعا لدينا الحق في اختيار الأكاذيب التي نصدقها".