هل وقع الركود؟
يتساءل كثير من المحللين وخبراء الاقتصاد، عما إذا كانت مؤشرات الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود وتراجع، فهل تتجه الولايات المتحدة إلى انكماش اقتصادي "خطير"؟ ووفقا لآخر استطلاع أجرته مجلة "إيكونوميست" المتخصصة في قضايا الشؤون الاقتصادية بالتعاون مع مؤسسة "يوجوف" البحثية، فإن الولايات المتحدة تعاني حالة ركود، إذن لماذا لا يعلن ذلك بشكل رسمي؟
وقد أدى ارتفاع معدلات التضخم - أعلى معدل منذ الثمانينيات من القرن الماضي - إلى سوء الحالة المزاجية لكثيرين. وأصبح بعض الأمريكيين يعتمدون على سياراتهم الخاصة بمعدل أقل لتوفير البنزين، ويتخلون عن المنتجات العضوية باهظة الثمن، ويبحثون عن صفقات لتوفير بضعة دولارات.
وهناك مزيد من الأخبار السيئة، إذ تتباطأ سوق الإسكان التي كانت مزدهرة في يوم من الأيام، وهي ما تجعل الأسهم في شركات العقارات أمرا محفوفا بالمخاطر. كما تلقى مؤشر ستاندرد آند بورز 500 "الذي يضم أسهم أكبر 500 شركة مالية أمريكية" ضربة قوية، إذ انخفض بنسبة 19 في المائة لهذا العام، ما أدى إلى خسارة المستثمرين لتريليونات الدولارات. لكن قد يكون هذا مجرد تراجع في الجو العام فقط، إذ تظل الهيئة الرسمية المسؤولة عن الإعلان عن مثل هذه التفاصيل صامتة بشأن هذه القضية.
وإزاء هذه الأجواء والمشهد القاتم سعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ بدء الموجة التضخمية العاتية الراهنة، أن تبعد اقتصاد أمريكا "الأول عالميا" عن دائرة الركود. وكذلك فعلت حكومات عديدة في الغرب، خوفا من فترة ركود تصعب السيطرة عليها على المديين القصير والمتوسط. وخلال الفترة الماضية ظل الاقتصاد الأمريكي في مسار التباطؤ، بحيث تم وصف ذلك على أنه انتصار وسط التهديدات بركود في أي لحظة.
والحق أن أكبر اقتصاد في العالم، أظهر أداء أفضل من أمثاله في الدول المتقدمة، بما في ذلك اقتصاد منطقة اليورو. لكنه في الوقت نفسه، لم يتمكن من تحقيق الحد الأدنى من النمو، لأسباب معروفة مرتبطة مباشرة بسياسة التشديد النقدي التي تتبعها أغلبية الدول لكبح جماح التضخم. غير أن أداء اقتصاد الولايات المتحدة لا يحصنه من إمكانية وصوله إلى عتبة الركود، بل الدخول إلى دائرته.
وهذا ما أشارت إليه جانيت يلين وزيرة الخزانة، التي كانت صريحة جدا، حين قالت "إن خطر الركود ليس أمرا غير مطروح"، بل قالت أيضا: إنه مناسب وطبيعي من أجل أن يعتدل النمو، وإن التضخم لا يزال مرتفعا للغاية. وهذا يعني أن المخاطر لا تزال موجودة على الساحة الأمريكية، كما أن مواصلة المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي" في رفع الفائدة في مراجعاته الدورية يسهم بالطبع في حدوث الركود. ورغم تحسن أوضاع سوق العمل المحلية، إلا أن ذلك لم يعط إشارات على إمكانية أن يتحقق النمو بنهاية العام الجاري بحده الأدنى. واللافت أن النمو الذي تحقق على صعيد الوظائف بدأ في مسار التباطؤ، ما يزيد من إمكانية الركود المشار إليه.
ولا شك في أن المشرعين الأمريكيين سيحاولون ما استطاعوا الإبقاء على الوتيرة الحالية للاقتصاد، إلا أن ذلك ليس مضمونا، في ظل سياسات التشديد النقدي المشار إليها.
وأظهر الاقتصاد الأمريكي قوة "نسبيا" في الأشهر القليلة الماضية، لكنه بقي في ساحة الشك، أو في نطاق المتغيرات. وتمكن هذا الاقتصاد من خفض التضخم بنسبة معقولة، على عكس الاقتصادات الغربية الأخرى التي جاء انخفاض ارتفاع الأسعار بوتيرة أقل بكثير.
وفي الشهر الماضي وصلت أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة إلى 3 في المائة وهو أقل مستوى منذ عامين. لكن جانيت يلين لا تزال تعد هذه النسبة مرتفعة، وينبغي خفضها في الأشهر المتبقية من العام الحالي. ويتفق المراقبون الاقتصاديون على أن الرفع المطرد للفائدة الأمريكية "التي بلغت حاليا 5.25 في المائة"، حقق الأهداف الآنية على صعيد التضخم، لكن المهمة لم تنته بعد. فـ"الفيدرالي الأمريكي" ترك الباب مفتوحا في مراجعاته المقبلة لزيادة تكاليف الاقتراض، بصرف النظر عن مستويات النمو.
وفي كل الأحوال، تبقى الاحتمالات كلها واردة على الساحة الاقتصادية الأمريكية، ولا شك أن البيت الأبيض أبقى مكافحة التضخم على رأس الأولويات كلها. فليست هناك ضمانات من عدم عودته إلى الارتفاع في الأشهر المتبقية من العام الجاري. وتركز الإدارة الأمريكية في الوقت نفسه على تقوية سوق العمل، وإن تعرضت هذه الأخيرة إلى بعض المؤثرات السلبية في الأسابيع القليلة الماضية. ومن هنا يمكن فهم التحذيرات الأخيرة لوزيرة الخزانة بشأن خطر الركود، وإن لم تشر إلى أنه أمر حتمي، لكنها عدته محتملا. فهذه المرحلة حساسة بالفعل، وهي كذلك بالنسبة لكل الاقتصادات المتقدمة، التي لا تعاني فقط فوائد مرتفعة وتضخما عاليا، بل ديونا حكومية ضخمة، تسهم في مزيد من الضغوط على المالية العامة، ما أسفر عن مشكلات اجتماعية متعددة، على رأسها ارتفاع تكاليف القروض السكنية للأفراد بمستويات عالية نادرة.