التحذير لا يكفي .. السلامة في الحظر
يطل علينا بين الحين والآخر نوع من التحذيرات المخيفة والمزعجة عن بعض المنتجات الغذائية والعلاجية، وهي معروفة وفي متناول الجميع على مستوى الأسواق، وتستخدم بشكل يومي وطبيعي في حياتنا المعيشية. وهذا النوع المستمر من الإعلانات التحذيرية يتسبب في قلق واسع بين المستهلكين وقد يلحق ضررا بصحتهم، خاصة أن هذه المنتجات التي يظهر حولها مثل هذا الجدل الواسع، لا تزال متوافرة في الأسواق، ويتم استهلاكها بطريقة عادية. وتظهر بعض الجهات المختصة في التثقيف الصحي والمراقبة الغذائية، بين الفينة والأخرى للتحذير من هذا المنتج أو ذاك رغم مخاطره التي تحتاج إلى تعامل سريع وأكثر جدية، كون سلوك التحذير لا يصل إلى المجتمع بالشكل المناسب ولا يمنع تداول هذه المنتجات، وغير مطمئن للابتعاد عن استعمالها، ولا يصل توجيهها إلى المستهلكين كافة.
وعلى هذا الصعيد نشرت صحيفة "الاقتصادية" أخيرا تقريرا عن إعلان الوكالة الدولية لبحوث السرطان بأن مادة الأسبرتام، وهي أحد أكثر المحليات الصناعية شيوعا في العالم، قد تكون مادة مسرطنة محتملة، وتستخدم عادة في صناعة منتجات كثيرة من بينها مشروبات الكوكاكولا الغازية منخفضة السعرات الحرارية وعلكة إكسترا وبعض مشروبات سنابل، وأن لجنة الخبراء المشتركة بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية بشأن المضافات الغذائية والوكالة الدولية لبحوث السرطان، ستعمل على تقييم المخاطر المرتبطة بالأسبرتام بشكل متزامن. وللمعلومية، فإن مادة الأسبرتام "إي 951" هي محلية صناعية مكثفة ومنخفضة السعرات الحرارية، وهي أحلى بنحو 200 مرة من السكر، ونتيجة لذلك في الأغلب ما تستخدم كبديل للسكر أو لتعزيز نكهة الأطعمة "محسن النكهة"، وهي تستهلك بشكل واسع.
وعلى العموم فهذه ليست المرة الأولى، التي يتم فيها مثل هذا الإعلان التحذيري، فقد ظهرت دراسات وتقارير حول أغذية ومشروبات ومستحضرات تجميل وعطورات وغيرها من المنتجات المسرطنة أو المسببة لأمراض خطيرة، فمثلا سبق أن حذرت منظمة الصحة العالمية أن المحليات غير السكرية التي تستخدم عادة للسيطرة على الوزن قد تكون مرتبطة بمخاطر صحية على المدى الطويل، كما سبق وظهرت أنباء بأن فرنسا والاتحاد الأوروبي أصدرا حظرا على تسعة منتجات لشركة عطورات سعودية بسبب احتوائها على مواد تسبب تهيج الجلد، الحساسية، اضطراب الغدد الصماء والعقم والسرطان، فيما لم نجد في أسواقنا أي تحرك للحظر بشأن هذه العطورات. إن صحة الإنسان أولا، فإما أن تلتزم الشركات بمنتجات آمنة أو تخضع للعقوبات وتواجه الحظر.
وهنا نشير على المستوى المحلي إلى نظام الغذاء الصادر بالمرسوم الملكي رقم 1/م في 1436هـ، في المادة الثانية على ضرورة حماية المستهلك من الغذاء الضار والمغشوش والمضلل وغير الصالح للاستهلاك، ومنعت المادة (16) من النظام ذاته تداول الغذاء إذا كان ضارا بالصحة أو مغشوشا، ونصت المادة (20) من النظام أنه على المنشأة الغذائية إذا علمت أو "شكت" في الغذاء وجب عليها سحبه من التداول فورا وإبلاغ الهيئة، وحملت المادة (21) الهيئة مسؤولية إنشاء نظام للإنذار السريع، وفي المادة (29) فرض النظام على الهيئة اعتماد منهج وقائي، ونصت المادة (30) صراحة على أن للهيئة إذا توافر لها ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الغذاء يسبب خطرا على الصحة ولم يتوافر دليل قاطع أن تتخذ تدابير احترازية.
وأمام كل هذه المواد الصريحة والواضحة بشأن مجرد "الشك" في وجود تهديد صحي في أي منتج غذائي، وضرورة توفير نظام للإنذار السريع، وكذلك المنهج الوقائي الواضح، فإن منتجات مثل مادة الأسبرتام (إي 951) التي حذرت منها مؤسسات صحية دولية بشكل صريح وتعد مسببا محتملا للسرطان لا تزال تباع أيضا بشكل صريح وعلني رغم أن هذه مخالفة صريحة للأنظمة، حيث علمت المنشآت الغذائية من خلال وسائل الإعلام بأن هناك دليلا قويا ومعلنا ومحتملا بأن هذه المادة مهددة للصحة، وكان الأولى في مثل هذه الحالة هو سحب هذه المنتجات فورا من الرفوف حتى تصدر هيئة الغذاء والدواء قرارها بشأن تلك المواد، الذي تأخر بشكل غير مفهوم حتى الآن. الشيء ذاته كذلك فيما يتعلق بما نشرته وسائل الإعلام عن العطور التي تم منعها في الاتحاد الأوروبي أو بعض أنواع المنتجات الزراعية، التي تم إعلان زيادة نسب السمية فيها، أو بيعها خلال فترة الحظر.
الهيئة العامة للغذاء والدواء في المملكة، لديها نشاط وتظهر من فترة إلى أخرى بالتحذير من هذا المنتج أو ذاك دون أي خطوات أخرى، لكن هل يكفي التحذير فقط؟ لقد نشرت صحف محلية عن قيام الهيئة بالتحذير من عطور محلية الصنع وتم التعميم على الغرف التجارية، ومع ذلك فقد تم رصد هذه المنتجات في الأسواق، ما يشير إلى عدم وجود آليات أكثر فاعلية من مجرد التعميم، ما الأسباب التي تحد دون تطبيق مواد نظام الغذاء، فإذا كان هناك دلائل ظاهرة وشكوك جوهرية في سلامة منتج معين فلا بد أن تبادر المنشآت فورا إلى منعها، حتى تصبح آمنة، وهذا يشير نوعا ما إلى غياب تطبيق النظام من اعتماد منهج وقائي، وعدم وجود نظام للإنذار السريع والتواصل الآني مع المنشآت بشأن المواد، فمن المفترض في مثل هذه الحالات إنشاء تطبيق مثل توكلنا يتم إلزام المنشآت التي تبيع الغذاء أو تصنعه من استخدامه، ويتم من خلاله رفع مستويات الإنذار بشأن المواد وآليات التعامل معها، وعلى حامل التطبيق تأكيد الالتزام فورا، ذلك لأن صحة الإنسان أولوية. وفيما تقدم الأنظمة الصادرة بشأن الغذاء دعما كافيا للهيئة لممارسة أفضل المستويات الوقائية للصحة العامة، ومع تزايد المنتجات المهددة للصحة، فإنه من المناسب الآن تطوير استراتيجية وطنية تشارك فيها جهات مختلفة من أجل تحقيق أعلى مستويات وقائية ممكنة، وتساعد المواطن على تحديد المنتجات المهددة للصحة، وتجبر المنشآت على سحب تلك المنتجات من الرفوف حتى يتضح الأمر، سواء بمنعها أو غير ذلك. وما دام أن عمل هيئة الغذاء والدواء يمس غذاء الإنسان ودواءه، فإن طبيعة عملها تحتم عليها التحرك لا السكون.