الاستثمار الأجنبي .. المناخ أولوية
يعد الاستثمار الأجنبي المباشر أحد أسرع الأنشطة الاقتصادية نموا في جميع أنحاء العالم بعد التجارة الدولية، حيث شهد في العقود الأخيرة ارتفاعا غير مسبوق، وقد عكف عديد من الباحثين في مجال المال والأعمال والاقتصاد على دراسة منافعه الإيجابية على اقتصادات الدول المضيفة له، كما انصب اهتمام جزء آخر منهم على محددات الاستثمار الأجنبي المباشر بغرض فهم أسباب تهافت مختلف الدول على استقطابه، وما له من أهمية لعديد من الدول الراغبة في تحسين بيئتها الاستثمارية ومن ثم جاذبيتها من أجل استقطاب أكبر نصيب منه، لما له من إيجابيات على مستوى النمو الاقتصادي وتحسين الإنتاجية وتعزيز تنافسيتها ووصول صادراتها إلى السوق العالمية.
وسعيا لجذب الاستثمارات الأجنبية لخدمة التنمية، تقدم الدول المضيفة، ولا سيما النامية منها بعض الحوافز والتسهيلات والامتيازات أملا في الحصول على مزيد من هذه الاستثمارات، إلا أن زيادة وتنوع الحوافز والتسهيلات لا تعني أنها ستؤدي حتما إلى زيادة تدفقها إلى البلد المضيف أو أنها ستزيد من جاذبيته، لأن هذه الأخيرة لا تقتصر فقط على تلك الحوافز والتسهيلات، وإنما هناك عوامل أخرى تكون متكاملة ومتداخلة، فيما بينها في الوقت ذاته التي تشمل الاستقرار السياسي، والظروف الاقتصادية والطبيعية والاجتماعية والقانونية والإدارية، وهو ما يعرف باسم "مناخ الاستثمار".
وعلى هذا الصعيد، نلاحظ أنه لم تستقر بعد وتيرة الاستثمار الأجنبي المباشر على مستوى العالم. فهذا القطاع واجه بعض الصعوبات في الأعوام الماضية، أسهمت بالضرورة في تراجعه. والاستثمار الأجنبي المباشر يعد ركنا رئيسا في الدول، التي تعتمد على نظام اقتصاد السوق، كما أنه يمثل حصة لا بأس بها في الدول التي تعاني مشكلات اقتصادية، وإن اتسم بالمخاطر في بعض هذه الأخيرة. وهذا النوع من الاستثمار يتأثر عموما بأقل الضغوط والمؤشرات السلبية، ويواجه مصاعب جمة في التحولات أو الأزمات العالمية الكبرى. ومن هنا، شهد الاستثمار الأجنبي تراجعا في 2022 بلغ 12 في المائة، بعد أن سجل تحسنا لافتا في 2021. وبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، من المتوقع أن يواجه تراجعا آخر بحلول نهاية العام الجاري، وسيبقى معرضا للضغوط لفترة لن تكون طويلة.
مثلت الحرب في أوكرانيا سببا رئيسا مباشرا لتراجع الاستثمار الأجنبي حول العالم، الذي بلغ حجمه 1.3 تريليون دولار. فهذه الحرب، التي مضى عليها أكثر من عام ونصف العام، مرشحة للاستمرار، مع غياب أي احتمال لحل سلمي لها، فالعقوبات الشاملة الضخمة، التي فرضت من قبل الغرب على روسيا مباشرة، وعلى الدول الأخرى، التي تتعاون معها، إلى جانب طبعا عدم وضوح الرؤية حيال نهاية الحرب، بل ارتفاع مخاطر اتساع رقعتها ما يعد أكبر مؤرق للمستثمر.
وأثبتت التجارب السابقة، أن النزاعات العسكرية بصرف النظر عن حجمها، تمثل معوقا أساسيا، ليس فقط أمام الاستثمارات الأجنبية، بل في وجه النمو العالمي ككل. فحرب أوكرانيا حدت من نمو الاقتصاد العالمي، في وقت كان يعاني فيه مشكلات ناجمة عن جائحة "كورونا".
وفي ظل الحرب المشار إليها، إلى جانب الآثار التي تركتها "كورونا" على الساحة الدولية، من جهة أسعار الغذاء والطاقة، زادت الضغوط على هذا النوع من الاستثمارات في العام الماضي. يضاف إلى ذلك الاضطرابات المتتالية لسلاسل التوريد التي عمقت صعوبة المشهد العام. ومع ذلك فقد ازداد هذا النوع من الاستثمارات في الدول النامية بمعدل 4 في المائة، لكنه لم يشمل إلا عددا قليلا جدا من الدول ذات الاقتصادات الناشئة. وهذه الأخيرة حققت قفزات نوعية في العقدين الماضيين على الأقل في جذب الاستثمارات الأجنبية إليها، مع اتساع رقعة اقتصاداتها وتنوع قطاعاتها. لكن هذا الارتفاع لا يعطي مؤشرا للاستدامة في ظل اضطرابات يشهدها الاقتصاد العالمي، بما في ذلك بالتأكيد الموجة التضخمية الراهنة التي لا تزال تضرب في عمق هذا الاقتصاد.
الأسباب لتراجع مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر متعددة، بما في ذلك الضغوط التي تواجهها الساحات الاستثمارية في هذه الدولة أو تلك والآتية من جهة الديون. فهذه المشكلة لم تعد حكرا على البلدان الفقيرة، بل تشمل بصورة أساسية الدول المتقدمة، غير أن الأخيرة لا تتأثر على هذا الجانب عادة بفعل قوة اقتصاداتها والثقة العالمية بالقوانين التي تتبعها، واستدامة الاستثمار بشكل عام فيها. وهناك تبرز نقطة مهمة للغاية، تتعلق بتراجع الاستثمارات متأثرة بانخفاض تمويل المشاريع العالمية وعمليات الدمج والاستحواذ عبر الحدود.
فشروط التمويل أصبحت في الأعوام القليلة الماضية أكثر صرامة وتعقيدا، فضلا عن ارتباطاتها السلبية بارتفاعات متتالية لأسعار الفائدة، التي تقدم عليها البنوك المركزية. وفوق كل هذا، تسهم أجواء عدم استقرار مؤشرات نمو الاقتصاد العالمي في تراجع الاستثمارات الأجنبية، وحتى انخفاض وتيرة أداء القطاعات الأخرى. فهو يحتاج إلى بيئة حاضنة حتى في الدول الأكثر استقرارا، كما أنه كغيره من القطاعات يحتاج إلى سياسات مالية مرنة لا ترفع تكاليف تمويل المشاريع، والأهم من كل هذا بيئة بعيدة عن المواجهات العسكرية والصراعات السياسية.