الجيل Z .. عصر ما بعد الرقمية
امتدت تداعيات الثورة الرقمية للتأثير في الأجيال، فظهر جيل رقمي بامتياز، يعرف باسم "الجيل Z" الذي ينعت المنتمون له بوصف "المواطنون الرقميون"، باعتبارهم الجيل الاجتماعي الأول الذي فتح أعينه في محيط يتيح إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ويتبنى بشكل جماعي استخدام التكنولوجيا الرقمية. زمنيا، ينتمي إلى هذا الجيل كل شخص ولد خلال الفترة ما بين أواسط التسعينيات حتى أواسط العقد الأول من الألفية الثالثة، فهم أبناء "عصر ما بعد الرقمية".
يطلق مفهوم الجيل، من الناحية الدلالية، على مرحلة التعاقب الطبيعي من أب إلى ابن، ويحدد بكونه متوسط الفترة الزمنية بين ولادة الآباء وولادة أبنائهم. ويتشكل من أشخاص ينتمون للفترة الزمنية نفسها، ويجمع بينهم الاشتراك في تقاسم تجارب ونمط وخبرات الحياة، وحتى معايشة الأحداث التاريخية الكبيرة. بالأرقام، يمتد الجيل، حسب علماء الاجتماع، ما بين 23 إلى 30 عاما. قبل أن تتقلص المدة بفعل التكنولوجيا، التي أسهمت في التحول السريع للقيم الاجتماعية، فصارت الحديث عن 15 عاما كحد فاصل بين الأجيال.
تعاقبت الأجيال على امتداد القرن الماضي، فتوالت أسماء الأجيال بدءا بالجيل التقليدي، المشهور باسم "الجيل الصامت" (1928-1944). تلاه أواسط عقد الأربعينيات، "جيل الطفرة"، الذي نشأ في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945-1965). وجاء بعده الجيل X من (1965-1979)، الذي أتى بعد ثورة الشباب لـ1968، ما جعله بلا معرف ثقافي واضح. ثم الجيل Y أو "جيل الألفية" (1980-1994)، بتعبير الديموغرافي الأمريكي نيل هاو الذي صاغ المصطلح في 1989، مع بداية تشكل الوعي الثقافي، فهؤلاء غيروا جوانب كثيرة في المجتمع، حتى قيل إنهم جيل "أصحاب الحقوق".
ظهر جيل ما بعد الألفية أو "الجيل Z" ليشكل منعطفا جيليا جديدا قياسا لما سبق، فهو أول جيل يعيش مع شبكة الإنترنت والهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وشاشات اللمس... جيل يفضل الهاتف الذكي واللوح الإلكتروني على أفراد الأسرة والتجمعات البشرية، فهذه أشياء لا يستطيع مفارقتها مطلقا. فضلا عن عجز أفراد هذا الجيل على وضع تمييز ملموس بين حياتهم المادية أو الرقمية.
ينعت هذا الجيل بالجيل المفرط في التواصل، إذ لا يكاد يعرف العالم دون إنترنت وشبكات للتواصل الاجتماعي، فهو جيل غارق في الافتراضي الذي شكل عوالمه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية عبره، فأبناؤه مرتبطون بشكل شبه كامل بالشبكة، معلوماتيا وعقائديا وسلوكيا. مقابل ذلك، يلاحظ تزايد نفور هذه الفئة من جميع أنواع المؤسسات المحافظة والسلطوية والأبوية.
وتبقى العلاقة بالمؤسسة التعليمية التقليدية نقطة مثيرة لدى هذا الجيل، المؤشرات تثبت تراجع ارتباطهم بها لمصلحة الاعتماد على الإنترنت كمصدر للمعرفة، وتفضيل التعلم عن بعد، فنحو 85 في المائة استعانوا بشبكة الإنترنت لإنجاز أبحاثهم، وشاهد 33 في المائة دروسا "أونلاين"، وقرأ 25 في المائة كتابا "أونلاين". مقابل حصر دور المدارس والجامعات في فضاء لاجتياز التقويمات والاختبارات دون أي بعد قيمي أو هوياتي.
ما أكثر السمات التي ينفرد بها "الجيل Z"، الذي يبلغ نحو 2،5 مليار من إجمالي سكان كوكب الأرض، ويمثل في الولايات المتحدة 1 /4 من إجمالي سكان البلد. فهو من جهة، أحد أكثر الأجيال تنوعا من الناحية الديموغرافية، وأكثرها ترابطا من حيث التكنولوجيا. فضلا عن قدراته الفائقة في التعاطي مع كل ما هو تكنولوجي ورقمي أكثر ممن درس العلوم، فهو صاحب توقعات عالية للغاية عندما يتعلق الأمر بالتجارب الرقمية.
تفيد الدراسات أن هذا الجيل يرى التقنية جزءا أساسيا من حياته اليومية، ما جعله أكثر الأجيال استهلاكا للبيانات، فالأرقام تفيد بأن 60 في المائة منهم غير قادرين على البقاء دون إنترنت لمدة أربع ساعات أو أكثر. ويفضل هؤلاء استخدام الإنترنت على النزول إلى الشارع، فمقتنياتهم تتم عبر الشبكة، فنسبة 55 في المائة منهم تحبذ شراء الملابس على الإنترنت، ويشتري 53 في المائة الكتب والألعاب والأجهزة الإلكترونية بالطريقة ذاتها.
خلافا للأجيال السابقة يعشق "الجيل Z" المغامرة والسفر، فرغم صغر سنهم ودخلهم المنخفض نسبيا، يحرص هؤلاء على السفر بانتظام، حتى استحقوا لقب "مسافرين منتظمين". فمعدل الرحلات الترفيهية لديهم يصل إلى ثلاث رحلات في العام، فالسر بالنسبة إليهم أولوية أكثر مما كان عليه الحال بالنسبة إلى البقية. وذلك نتيجة طبيعية لوسائل التواصل الاجتماعي وانفتاح المجتمعات على بعضها بعضا عبر الشاشات، ما حدا بأحد المراقبين إلى القول إن السفر لا يكون من أجل المتعة فقط، بل للدخول في الجو العام الشائع والمتداول بكثرة في الفضاءات الافتراضية".
تدريجيا، بدأ هذا الجيل يشكل كتلة حرجة، فهو من الناحية الاقتصادية قوة استهلاكية قوية الآن، وأساس القوى العاملة في المستقبل. وسياسيا، كان له دور فاصل في حسم النتيجة في أكثر من انتخابات، لعل أحدثها إنقاذه الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية من هزيمة ساحقة في انتخابات التجديد النصفي. فالإحصائيات تؤكد بأن الشباب يفضلون الديمقراطيين بهامش 28 نقطة، ما جعل أصوات الشباب في مجلس النواب موزعة بين الديمقراطيين بنسبة 63 في المائة، و35 في المائة للجمهوريين.
صحيح أن "الجيل Z" أكثر امتلاكا لمفاتيح التطور والاندماج السريع في الحياة مقارنة بـبقية الأجيال، بيد أن اقترانه الشديد بعالم الإنترنت بات مصدر تهديد له من حيث لا يدري. فالوثوقية المطلقة لما تقدمه المواقع والمنصات يجعل فئات واسعة ضحايا ومغررا بهم، مثلما كان عليه الحال عند إقدام تنظيمات متظرفة على استغلال ثقة هؤلاء للترويج لأفكارهم ومشاريعهم التخريبية "داعش نموذجا".
إن كان هذا حال "الجيل Z"، فلا محال ستكون المعضلة في المستقبل أكبر مع "الجيل ألفا" - قيد التشكل حاليا - الذي وصفه أحدهم بكونه "الجيل Z أثناء تعاطيه المنشطات". فالأطفال المولودون في "الجيل ألفا" يشكلون، بحسب الخبيرة الاجتماعية أشلي فيل، جزءا من تجربة عالمية غير مقصودة".