رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التسلح والاقتصاد .. التصنيع يتشكل

إذا عدنا إلى 1992، أي بعد هدم سور برلين الشهير، وإعلان انتهاء الحرب الباردة، بدأ تحول جديد بخفض الإنفاق العسكري وبات على شكل ميزانيات دفاع مخفضة بشكل مستدام.
قبل هذا التاريخ كان الإنفاق على التسلح يعادل 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وتشير دراسة لصندوق النقد الدولي ودارسات مختلفة أخرى إلى أن الإنفاق العسكري العالمي انخفض بمقدار النصف تقريبا، من 3.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي خلال فترة الحرب الباردة (1970-1990) إلى 1.9 في المائة في الأعوام التي أعقبت الأزمة المالية مع تباين حاد حول هذا المتوسط، فقد يهبط إلى نحو 0.1 في المائة وقد يصل إلى 46 في المائة، والعامل الحاسم في ذلك هو تهديد الجار، أو سعيه نحو التسلح.
فالدراسات تشير إلى أن تهديد الحرب الدولية يسهم في زيادة الإنفاق بنسبة 2.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما الحرب الأهلية تسهم في زيادتها 1.8 في المائة، لكن على كل حال فإن المتوسط العام للإنفاق العسكري قد تراجع في العالم بشكل واسع النطاق، فلم تعد مظاهر سباق التسلح كبيرة، ولم تعد التهديدات الإقليمية واسعة النطاق، كما أكدت الدراسات كذلك انخفاض نفقات الدفاع كحصة من الإنفاق الحكومي، وقد أتاح المجال لأشكال أخرى من الإنفاق العام، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.
ويشير تقرير نشرته صحيفة "الاقتصادية" أخيرا إلى أن التصنيع عموما انخفض في عدد من الاقتصادات المتقدمة، فبعد أن بلغ التصنيع في الولايات المتحدة ذروته في الخمسينيات عند نحو 28 في المائة من الاقتصاد، انخفض اليوم إلى ما يزيد قليلا على 10 في المائة، وبلغ أقل من 10 في المائة في المملكة المتحدة وفي ألمانيا، القوة التصنيعية في أوروبا، كما انخفضت حصة التصنيع في الاقتصاد من 25 إلى 19 في المائة بين 1991 و2022، وتعد هذه النتيجة غريبة نوعا ما، فمعظم الدراسات تشير إلى أن الإنفاق العسكري يؤثر سلبا في النمو الاقتصادي، وأن زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم وغيرهما تعزز النمو، لكن هذه النتيجة التي تؤكد انتشار ظاهرة ضعف التصنيع مع توقف سباق التسلح قد تتطلب إعادة النظر في تفسير النتائج عموما.
من المهم الإشارة إلى أن السبب الرئيس في تراجع التصنيع في الاقتصادات المتقدمة هو نقل الإنتاج الصناعي من الغرب إلى الشرق، وما صاحب ذلك من إعادة تشكيل لسلاسل التوريد العالمية. فمن الواضح هنا أن أعوام السلام التي تلت نهاية الحرب الباردة منحت الدول النامية فرصا أكبر بكثير من الدول المتقدمة فتصاعد الثقة بالتجارة العالمية بسبب موجات متتالية من تحرير التجارة، وضخامة هذه الاتجاهات والسياسات الصناعية، ونظرا إلى انخفاض تكلفة الإنتاج عموما في الدول النامية لقضايا مختلفة من بينها قيمة ساعات العمل، مع توافر عمالة ماهرة، وكذلك انخفاض أسعار التأمين نظرا إلى تراجع التهديدات العالمية، كل ذلك أسهم في تراجع معدلات التضخم، وأسعار الفائدة في العقدين الأولين من القرن الحالي. لكن ذلك أسهم أيضا وبطريقة غير مباشرة في خسارة التصنيع وانخفاض معدلات الاستثمار والإنتاجية وضعف النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة، كما أدى انخفاض الاستثمار إلى زيادة عدم التوازن بين المدخرات العالمية والاستثمار، ما خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل العالمية بمقدار 3-4 نقاط مئوية، هل يمكن القول: إن الأيام الصعبة مع تهديدات الحرب كانت تساعد على النمو، بينما أيام السلام تجعل العالم أقل حصافة؟
ونلاحظ في الدراسات أيضا أنه تم تحديد عدد من الاعتبارات التي تعزز الإنفاق العسكري، وأولها عندما يعد الإنفاق العسكري المرتفع من قبل الجيران تهديدا، ما يدفع الدولة إلى تخصيص المزيد للدفاع، ويأتي عدم الاستقرار السياسي والعنف والإرهاب سب ثانيا، لتنفق الدولة المزيد على الجيش، ويأتي ثالثا عندما تكون الدولة عضوا في مجموعة تحالف عسكري، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث يمكن أن تمارس العضوية في التحالف ضغوطا لزيادة الإنفاق العسكري أو خفضه، هذه العوامل الثلاثة بدأت في التشكل من جديد، فما حدث من مشكلات واضحة في سلاسل التوريد، لقضايا مختلفة، من بينها النزاعات الجيوسياسية وكذلك الحرب الاقتصادية التي أنشأت مشكلات في التوريد، إضافة إلى تهديد الجار، وأيضا زيادة التحالفات العسكرية، وما تتطلبه من نزعة للتسلح، وأخيرا اتجاهات الحرب في أوكرانيا وما تتطلبه من زيادة نزعة التسلح في (الناتو)، كل هذه العوامل تعيد سباق التسلح إلى مستوياته قبل 1992.
ومن اللافت فعلا، أن يصاحب كل هذا النشاط في إعادة التسلح بداية تشكل عصر صناعي جديد، حيث يشهد التصنيع العالمي انتعاشا، ولا سيما في الغرب.
وهنا يعود التساؤل حول العلاقة بين التسلح والنشاط الاقتصادي عموما وفي الغرب خصوصا، ولا سيما أن هناك اليوم سباقات تسلح عالمية أخرى، سباق على التكنولوجيات والصناعات الخضراء، وإزالة الكربون، ويظهر هذا في تحرك الغرب بحزم إعانات وحوافز ضخمة واستثمار إضافي يبلغ نحو 2-3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنويا، ويأتي التسليح العسكري بعد فترة من التراجع، وهناك سباق عالمي أيضا في التصنيع لمعالجة سلسلة التوريد وإيجاد فرص العمل المحلية لمقابلة التكاليف الاجتماعية الناتجة عن فقدان ملايين من وظائف التصنيع في الغرب بجلاء، فمن الواضح إذن من خلال هذه القراءة أن الإحساس بالخطر سواء البيئي أو العسكري أو السياسي يعزز من مظاهر التصنيع في الغرب خصوصا، ما يعد بتغيرات كبيرة في المستقبل سواء في التحالفات أو في التشريعات، فزمن حرية التجارة العالمية والعولمة لم يعد قائما، والتشريعات التي كانت قائمة حينها قد تكون محل تفاوض قريبا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي