رهاب التكنولوجيا .. علينا أن نصغي إلى المتفائلين
أدى الاستخدام المبكر للراديو إلى ظواهر غامضة خارقة للطبيعة، كالمشعات الناطقة والمواقد، وفقا لتقارير الصحف في ذلك الوقت. وكان الأطباء الإنجليز يخشون في ذلك الحين أن يؤدي الاستخدام المفرط للدراجة إلى إرهاق الجهاز العصبي وجعل الوجوه تعبة وقلقة ومتهالكة. كما أعرب المعلمون عن أسفهم من أن استبدال المسطرة الحاسبة بآلات حاسبة إلكترونية من شأنه أن يقوض فهمنا للمفاهيم الرياضية. إلى جانب هذا، ماذا سيحدث عندما تنفد البطاريات؟
كل هذه الأمثلة على الخوف من التكنولوجيا مأخوذة من "أرشيف المتشائمين"، وهو مجموعة رائعة من "المخاوف من الأشياء القديمة عندما كانت جديدة". ينبغي لأي شخص قلق بشأن صعود الذكاء الاصطناعي اليوم أن يبحث في هذا السجل الرقمي. إنه لأمر مدهش كيف أن كثيرا من مخاوفنا المعاصرة يردد صدى مخاوف سابقة تجاه السيادة المتزايدة للآلات وتقادم الإنسان. ومن المطمئن أيضا كيف أن كثيرا من حالات الذعر الأخلاقي هذه قد أثبت خطأه بشكل مذهل، حيث بدا فكاهيا تقريبا بالنظر إلى الماضي.
لكن لمجرد أن السوداويين كانوا مخطئين في كثير من الأحيان بشأن شرور التكنولوجيات السابقة لا يعني أن المتشائمين مخطئون بشأن الذكاء الاصطناعي اليوم. مع ذلك، ينبغي لنا أن نركز على الأقل على ما إذا كانت أحدث تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تختلف عما أتى قبلها، أو بأي طرق ملموسة تختلف. من المؤكد أنه سيكون هناك جلبة أقل حول الذكاء الاصطناعي لو أردنا إزالة الغموض عن المجال وإعادة تسميته بالإحصاءات الحسابية، كما يقترح بعض التكنولوجيين. وكما يوضح "أرشيف المتشائمين"، يميل المستقبليون إلى المبالغة في التأكيد على سرعة تبني معظم التكنولوجيات والتقليل من أهمية نطاق التكيف. إذ يمكنهم إخبارنا بما يمكن أن تفعله التكنولوجيات من الناحية النظرية، ولكن ليس كيف سيتم استخدامها في الممارسة العملية.
قدم الفيلسوف دانييل دينيت، الذي اهتم منذ فترة طويلة بهذا المجال إحدى الحجج عما يجعل الذكاء الاصطناعي مختلفا - ومصدر قلق مشروع. في مقال نشر في مجلة "ذا أتلانتيك"، يجادل بأنه لأول مرة في التاريخ يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لصنع "أشخاص مزيفين" يمكنهم التحول إلى أشخاص حقيقيين في عالمنا الرقمي. إن هذا التزييف العميق، كما يسميه آخرون، الذي يسيطر عليه الأشخاص ذوو النفوذ والشركات والحكومات، هو أخطر المصنوعات البشرية ويمكن استخدامها على نطاق واسع لتشتيت الانتباه والتشويش، ما يؤدي إلى إضعاف النقاش العقلاني. كتب دينيت: "يؤدي إنشاء أشخاص رقميين مزيفين إلى خطر تدمير حضارتنا. إن الديمقراطية تعتمد على رضا المحكومين الواعي (وليس المضلل)".
قد يكون دينيت، أو قد لا يكون، مفرطا في القلق بشأن تهديد هذه التكنولوجيا. لكنه يقر بأن التكنولوجيا يمكن أن توفر أيضا حلا. مثلما حللنا مشكلة النقود المزيفة إلى حد كبير، يمكننا أيضا تأجيل التهديد المشؤوم للأشخاص المزيفين، إن لم يكن القضاء عليه. تحتوي معظم الأوراق النقدية اليوم على علامات مائية متقدمة، مثل يوريون كونستيليشن، وهو نظام من الرموز المضمنة التي تمنع آلات التصوير الملونة من تزوير العملات القانونية. ويعمل علماء الكمبيوتر بالفعل على تطوير تكنولوجيات مائية مشابهة لتوضيح محتوى التزييف العميق الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي.
أخبرني مؤسس إحدى شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي أن "وضع العلامات المائية أمر ممكن من ناحية تكنولوجية، لكن ليس بالضرورة أن يكون الطريقة الأكثر فائدة". يجب أن يكون التركيز على الكيفية التي ينتشر بها التزييف العميق بقدر ما ينصب على كيفية إنشائه. بمعنى آخر، نحتاج أيضا إلى التركيز على نظيرات شركات صنع آلات التصوير: وهي شركات وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يعزز الحجة الداعية إلى ضمان إمكانية التحقق من حسابات المستخدمين وأنه يمكن اعتبارها مسؤولة عن مخرجاتها.
فيما يقبل إخصائيو تكنولوجيا آخرون حجة دينيت بأن حداثة الذكاء الاصطناعي تكمن في أنه يطمس الخط الفاصل بين الآلات والبشر. لكن هذا أيضا يمكن أن يكون شيئا جيدا. ينبع كثير من مشكلات مجتمعنا المحوسب من حقيقة أن الآلات غير مرنة، كما يقول نيل لورانس، أستاذ التعلم الآلي في جامعة كامبريدج. معظم أجهزة الحاسوب هي آلات حتمية يمكنها فقط معالجة المشكلات كميا، ما يترك مجالا صغيرا للغموض أو الشك أو الفروق الدقيقة. لكن أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي هي آلات احتمالية مدربة على جميع المعارف البشرية على الإنترنت، وبالتالي فهي أكثر اندماجا في الثقافة الإنسانية.
وهذا يثير احتمال أن يتم استخدام الآلات بشكل متزايد لمعالجة المشكلات نوعيا، كما يفعل البشر. "لقد تكيف البشر مع جميع التكنولوجيات السابقة. لكن هذه التكنولوجيا يمكن أن تتكيف معنا"، كما يقول لورانس، مؤلف أحد الكتب التي ستصدر قريبا عن الذكاء الاصطناعي.
عندما يتعلق الأمر بتطوير روبوتات محادثة خاصة بالرعاية الصحية أو السيارات ذاتية القيادة، قد تكون القدرة على التكيف مع الآلة سمة مفيدة بشكل خاص. يجب أن نصغي إلى المتفائلين أيضا.