تطوير المشاعر لا يتوقف
في كل عام يأتي الحج، مع مشاعر إيمانية عميقة وثابتة، ووفود من كل بقاع الأرض ليشهدوا هذه الأيام الفضلى المباركة يمشون على خطوات الأنبياء، وكل موسم تسخر القيادة السعودية الإمكانات كافة من أجل أن يجد الحجيج كامل الراحة والأمان، متفرغين لعبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر وشرع، لا مجال في الحج لرفع راية سياسية أو حزبية أو جماعات، الجميع سواسية.
على صعيد هذا الميدان المليء بالغفران تنزل الرحمات من الله الرحيم، وفي كل عام ومع نفرة الحجاج من عرفات حتى المبيت في مزدلفة ثم العودة إلى منى في رحلة إيمانية خالدة، وفي الموعد نفسه يصل قادة هذه البلاد إلى مشعر منى للإشراف على موسم الحج وراحة ضيوف الرحمن، وكما شهدت المشاعر للملوك السعوديين منذ عهد المؤسس حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وعلى النهج نفسه تشهد المشاعر وصول الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، إلى منى ليشرف بنفسه على راحة الحجاج والتسهيلات المقدمة لهم.
إن خدمة الحجيج والحج هي أسمى ما تقدمه الدولة السعودية للعالم الإسلامي بأسره، بل العالم بمختلف مذاهبه وعقائده، فهنا يتجمع الملايين من كل أنحاء العالم، ليشهدوا منافع لهم، ويتعرفوا على الإسلام في أسمى قيمه، قيم التسامح والإخاء، قيم السلام والعبادة الحقة، ولذلك تعمل أجهزة الدولة كافة بإشراف القيادة منذ نهاية كل موسم حج على تجهيز كل ما يسهم في نجاح الموسم التالي، بداية من رصد كل التحديات التي استجدت، وانطلاقا من مفاهيم ابتكارية لجعل الموسم التالي أكثر سهولة وراحة، ولضمان تدفق مستدام لجميع سلاسل الإمداد الخدمية والأغذية والمياه والاتصالات والرعاية الصحية والمستشفيات بأعلى درجات الجودة.
وهذا العام ليس استثناء في الجهد وليس جديدا في آليات العمل وإجراءاته، فلقد تمرست أجهزة الدولة كافة على العمل في موسم الحج بتنسيق كامل وتكامل في الأدوار والمسؤوليات، على الرغم من أن إجمالي أعداد الحجاج هذا العام 1444هـ بلغ (1,845,045) حاجا، منهم (1,660,915) حاجا قدموا من خارج المملكة عبر المنافذ المختلفة، وبلغ عدد الحجاج الذكور (969,694) حاجا، بينما بلغ عدد الحاجات الإناث (875,351) حاجة. وبينما وصل (1,593,271) حاجا عن طريق المنافذ الجوية، فقد وصل (60,813) حاجا عن طريق المنافذ البرية، فيما (6,831) حاجا عبر البحرية، وبلغ عدد الدول المستفيدة من مبادرة طريق مكة سبع دول، ووصل عدد المستفيدين من هذه المبادرة إلى (242,272) حاجا وحاجة، وتم إنهاء إجراءات سفر جميع الحجاج المستفيدين من هذه المبادرة بعد التحقق من الاشتراطات الصحية، وتم نقل أمتعتهم من بلدانهم إلى مقر إقامتهم مباشرة.
هذه الأرقام الدقيقة عن حج هذا العام توضح حجم الجهد الذي تبذله الدولة لمقابلة احتياجات هذه الوفود متنوعة الثقافات واللغات، التي يجب أن تسير ضمن كتلة بشرية واحدة متزامنة لا يعكر صفو عبادتها شيء، وتجد متطلباتها في متناول اليد، غذائية كانت أو صحية، أو وسائل نقل متنوعة ومريحة، ومع وصول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى مشعر منى، فإن هذا يحمل دلالات عدة أهمها نجاح عمليات التفويج من مشعر إلى آخر بكل انسيابية بإدارة ناجحة للحشود تلافت كل الثغرات أو السلبيات، وتكامل جهود جميع قطاعات الدولة عسكرية ومدنية ووزارات وهيئات ومؤسسات وأيضا جهات تطوعية.
في كل عام -وبحمد الله وفضله- ثم بتوجيهات القيادة وما تسخره من إمكانات موارد لامحدودة تأتي النتيجة حجا ناجحا بكل المقاييس وامتدادا لنجاحات سابقة، وإضافة إلى خبرات متراكمة وغير مسبوقة في تنظيم الحشود، وما يميز عاما عن عام هو حجم الخدمات الجديدة التي يتم تسخيرها وإدخالها للخدمة، والابتكارات التي تم تطبيقها من جميع القطاعات بما فيها الخدمات اللوجستية من حافلات وقطارات وغيرها من التجهيزات والتقنيات المتطورة والمراقبة على مدار الساعة للحفاظ على أمن الحجاج وسلامتهم، بما يسهم في سلاسة تفويج الحجاج، وأمنهم الغذائي والصحي وأمنهم على أنفسهم وأبنائهم، ومن الخدمات المهمة مشروع المملكة العربية السعودية للإفادة من الهدي والأضاحي الذي لا يقتصر على تأمين الأنواع المختلفة من الأنعام التي تجزئ للنسك، بل امتد إلى الاستفادة من لحومها لتوزيع جزء منها على فقراء الحرم والجزء الأكبر يتم حفظه لتوزيعه على عديد من الدول الإسلامية. مع الالتزام التام بالضوابط الشرعية والمتطلبات الصحية ومنع التلوث، ومن الخدمات كذلك برنامج الحج منخفض التكلفة، وذلك لمراعاة مدى حاجة المواطنين والمقيمين من ذوي الدخل المحدود والراغبين في أداء فريضة الحج، وتسهيل أداء المناسك عليهم بأقل تكلفة ممكنة من خلال شركات حجاج الداخل المرخص لها تنفيذ هذا البرنامج.
ومن الخدمات عمل المظلات لتبريد الأجواء الحارة وتوفير المشروبات والتغذية الجيدة مراعاة للحالات الصحية الخاصة عند تنقل الحجيج من مشعر إلى آخر، ومن الخدمات ما تم توفيره من تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تسهم في التعرف على الأشخاص والتنبؤ بالازدحام، وتوجيه الحجاج نحو أكثر الطرق سهولة، ومن ذلك توفير السيارات ذاتية القيادة، في أول تجربة من نوعها، إضافة إلى خدمات النقل الترددي العام، ومن الخدمات أيضا معالجة النفايات الصلبة المتولدة في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة خلال موسم الحج، وتطوير أساليب جديدة تضمن جمع ونقل وتخزين ومعالجة النفايات بالطرق الصحية والبيئية السليمة.
وهكذا هي الرحلة الإيمانية المباركة في كل عام، والمملكة تنال وسام هذا الشرف العظيم في خدمة الحرمين الشريفين، هذا الشرف الذي ترتفع به الهمم بتوجيهات القيادة التي لا تكتفي بالنجاح، بل تسعى دوما إلى التطوير المستمر والمستدام لمقابلة ومواجهة تحدي تطويع كل التقنيات الحديثة من أجل تقديم الخدمات في الحرمين تسهيلا لضيوف الرحمن.