رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


لخفض عجز الميزانيات ثمن

عقدت في باريس يومي الخميس والجمعة الماضيين قمة "من أجل ميثاق مالي عالمي جديد". موضوعات القمة كثيرة، أذكر منها: مكافحة الفقر، وقضايا التغير المناخي، والهيكلة المالية الدولية، وقواعد وصدمات التمويل. وكان هناك إجماع على إصلاح النظام المالي العالمي. ويبقى التنفيذ. وللمملكة عبر الأعوام مساهمات قوية في طرح وتبني ما يؤدي إلى تعديل وتنظيم التشريعات المالية العالمية. ولتطبيق الشريعة الإسلامية أثر في ذلك، بما يقلل بوضوح المشكلات المالية.
شهد العالم أزمة مالية عالمية 2008. وشهد كارثة كورونا. وشهد أزمة وتبعات حرب روسيا وأوكرانيا. وتتبع الأزمات طبعا إصابة الاقتصاد العالمي بضعف واضح أبرز علاماته انخفاض ملحوظ في النمو الاقتصادي أو ما يعبر عنه البعض بالركود، ويتبعه ضعف في موارد ميزانيات الدول.
يواجه العالم، وعلى رأسه أمريكا، هذه الأوضاع عبر الأعوام بصب النقود صبا في الأعوام اللاحقة للأزمات، بما يعرف بالحوافز النقدية والمالية. خفف الصب النقدي من الضعف أو الركود، لكنه جلب آثارا غير مرغوب فيها، على رأسها، عجز كبير ما زال قائما في الميزانيات العامة لعديد من الدول وأشهرها أمريكا. ومن الآثار السلبية حصول تضخم بنسب عالية.
ويدور النقاش عالميا حول الخروج من تلك الحوافز النقدية لتخفيف العجز والتضخم. هناك من يضغط باتجاه التعجيل وهناك من يدعو إلى التأخير.
التعجيل يقلل من النمو الاقتصادي العالمي. والتأخير يفاقم من مشكلة الديون السيادية "الحكومية". وقد يجر التأخير إلى مزيد من التضخم، كما قد يجر إلى مزيد من مزاحمة الاستثمار الخاص. وهناك من يشكك في حدوث الأمرين التضخم والمزاحمة، أو على الأقل يقلل من قوتهما.
خلال أعوام ماضية كثيرة، كانت كثرة من البلدان تنفق أكثر من دخلها، ومن أشهر أمثلة هذه البلدان أمريكا وبريطانيا وأغلبية دول جنوب أوروبا. في المقابل، هناك دول لا تنفق أكثر من دخلها. وبعضها ينفق أقل، وتستثمر بعض أموالها الفائضة في إقراض مجموعة العجز التي تنفق أكثر من دخلها. الصين في أعوام مضت مثال لدول الفائض.
مطلوب من مجموعة العجز الكبير خفض إنفاقها وخفض العجز التجاري. لكن خفض الإنفاق دون أن تقابله زيادة إنفاق من الدول الأخرى يعني ضمن ما يعني في النهاية تراجع الطلب الكلي العالمي، ومن ثم انكماش الاقتصاد العالمي. وهنا موازنة بين ضرر استمرار العجز الكبير وضرر الانكماش. العالم أمام معضلة، وطرح باحثون كثيرون رؤى للخروج من هذه المعضلة.
أشير هنا إلى مرئيات لروبيني، أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك عن كيفية خفض العجز دون التسبب في ضعف اقتصادي عالمي ملحوظ. قسم روبيني بلدان العالم إلى مجموعات أربع: مجموعة التقشف المبكر، ومجموعة التهيؤ للتقشف، ومجموعة دول مفرطة في الادخار، ومجموعة ذات فائض في الحساب الجاري، وأعطى لكل مجموعة وصفة للعلاج، تراوح بين التساهل في السياسة النقدية والاحتفاظ بالحوافز المالية إلى أجل، وخفض فائض الحساب الجاري.
خلال أعوام مضت، حث قادة دول تعاني العجز، ومنها أمريكا بصورة غير مباشرة، مجموعة الفائض إلى زيادة الإنفاق. مثلا كتب الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما قبل نحو عشرة أعوام رسالة منه إلى قادة الدول في مجموعة العشرين G20 المنعقدة وقتها في كندا، وأشار في رسالته المنشورة وقتها، إلى أهمية رفع مستوى الطلب المحلي، وإعطاء وزن أكبر لقوى السوق في تقرير أسعار الصرف، وقد فهم أنه يقصد الصين في المقام الأول. حيث أشار إلى القلق أو الانزعاج من طلب ضعيف للقطاع الخاص، واعتماد مبالغ فيه على الصادرات من قبل بعض الدول، التي تملك فوائض خارجية كبيرة. الصين بدورها سارعت بالرد بأن لقاء مجموعة العشرين ليس المكان المناسب لبحث قضية أسعار الصرف. ذكرني رد الصين برد أمريكا والغرب المعتاد برفض محاولات الأطراف العربية والإسلامية وغيرهما إدخال طرف ثالث محايد لمناقشة أو التحقيق في أي اعتداء أو تصرف إسرائيلي مخالف للقوانين والأعراف الدولية.
في إطار معضلات العجز والتضخم وضعف النمو الاقتصادي التي تواجه الاقتصاد العالمي، اجتمع قادة كبرى الدول مرات عدة وبحثوا سبل إنعاش النمو الاقتصادي، والحد من مخاطر الديون العامة المتفاقمة. وكانت هناك موافقات من الأغلبية على الأقل، بإخضاع مشاريع موازناتها الوطنية في كل عام للدراسة على مستوى كبير، قبل أن يتم إقرارها من ذوي السلطة المعنية. كما حصلت موافقات أو على الأقل توصيات في الأعوام الماضية على الحاجة إلى زيادة الضرائب على بعض القطاعات. لكن كل هذه التوصيات واجهتها نكبات في الأعوام الماضية من كارثة كورونا فحرب روسيا وأوكرانيا وغيرهما من كوارث.
ماذا بشأن دول مجلس التعاون الخليجي؟ أسهم ارتفاع الدخل النفطي في أعوام مضت في تدفق الإنفاق الحكومي بوتيرة قوية، مثلا خلال الأعوام التالية مباشرة للأزمة المالية العالمية أو لكارثة كورونا. ما نتج عن ذلك تجنيب اقتصاد المجموعة ككتلة واحدة من الوقوع في نمو سلبي بعد الكوارث العالمية. أي أن الإنفاق الحكومي حافظ على زخمه في الأعوام الماضية.
عالميا متوقع جدا استمرار نمو إنفاق الحكومات. والحمد الله على نعمه. إلا أن توسع الديون الحكومية في أعوام مضت أعطى دروسا وأكدته القمة الأخيرة في باريس، بأن هذا النمو ينبغي ألا يبنى على توسع في الديون. مضار التوسع أكثر من منافعه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن خفض الدين العام توجه صريح تتبناه "رؤية 2030". وبحمد الله نرى نموا اقتصاديا وانخفاضا في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي في السعودية وفي مجلس التعاون. وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي