رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


تحديات طريق الوصول إلى «العولمة المفتتة»

على الرغم من التسارع الأكبر لرفع معدلات الفائدة في أغلب بلدان العالم بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، خلال الـ15 شهرا الماضية، إلا أن معدل التضخم ما زال أعلى من المعدل المستهدف له "2 في المائة"، وما زال أيضا بعيدا عنه في كثير من الاقتصادات، عدا وضعه في بلدان عديدة ما زال معدل التضخم، يسجل فيها ارتفاعات عدت الأعلى خلال أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، وطوال تلك الفترة كبح معدل النمو الاقتصادي الحقيقي عالميا، وفي مناطق عديدة على رأسها منطقة اليورو سجلت ركودا، يتوقع أن يتفاقم في النصف الثاني من العام الجاري، خاصة مع استمرار البنك المركزي الأوروبي في رفع معدل الفائدة، كان آخرها رفعه لها للمرة الثامنة على التوالي خلال أقل من عام مضى إلى 4.0 في المائة، وتبعه بنك إنجلترا المركزي برفعها بأعلى من المتوقع إلى 5.0 في المائة للمرة الـ13 على التوالي، وكان البنك المركزي السويسري قد سبقه بالرفع للمرة الخامسة على التوالي إلى 1.75 في المائة، والبنك المركزي النرويجي بالرفع للمرة الـ11 على التوالي إلى 3.75 في المائة، وإجمالا فقد وصل عدد قرارات رفع معدل الفائدة "39 بنكا مركزيا حول العالم" إلى 73 قرارا منذ مطلع العام الجاري حتى نهاية الأسبوع الماضي، وهو النمط الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البنوك المركزية حول العالم طوال العقود الزمنية الماضية.
التضخم ما زال مستعصيا على الإذعان لسياسات البنوك المركزية، ما دفع محافظي ورؤساء البنوك المركزية إلى التصريح بعزمهم على رفع الفائدة مجددا بما لا يقل عن مرتين على أقل تقدير، ونية المحافظة على المستويات المرتفعة للفائدة خلال عامين مقبلين، التأكد بصورة مستمرة من كبح التضخم وتراجعه دون المستوى المستهدف "2.0 في المائة"، والاستعداد على نطاق أوسع للتداعيات المحتملة من ركود اقتصادي ممكن حدوثه، وارتفاع معدلات البطالة في أسواق العمل، كأبرز النتائج المتوقع حدوثها جراء المواجهة الشرسة مع التضخم العنيد.
ولن تتوقف التحديات عند ما سبق فحسب؛ على مستوى زيادة احتمالات ركود عديد من الاقتصادات، وارتفاع أعداد العاطلين في أسواق العمل، بل تمتد وفقا لتقديرات البنوك المركزية إلى الاستعداد لتصحيح كثير من الأسواق المالية والعقارية، إضافة إلى إفلاس عديد من البنوك التجارية، وما قد تشهده أسواق الصرف من تقلبات حادة لأسعار العملات، وهي التحديات أو الأزمات بمعنى آخر التي تنظر إليها البنوك المركزية -رغم آلامها الاقتصادية والمالية- على أنها أدنى من الرضوخ لمعدل مرتفع للتضخم، وتعتقد أن لديها خيارات أفضل للتعامل معها، مقارنة بصعوبة التعامل مع معدلات تضخم مرتفعة، وهو الأمر الذي طالما تكرر في أغلب تصريحات محافظي ورؤساء البنوك المركزية طوال نحو عام ونصف مضى، كان من أشهرها بالطبع التصريحات المتكررة لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
يأتي تجدد الحديث حول هذا الموضوع في الوقت الذي تتوقع البنوك المركزية أن يحفل النصف الثاني من العام الجاري، نتيجة لاحتدام الصراع بين معدلات الفائدة الأعلى والأسرع خلال أربعة عقود زمنية مضت من جانب، ومن جانب آخر يتمثل في التضخم الأعلى والأكثر عنادا للفترة نفسها، وكون هذا الصراع المحتدم يأتي خلال أوضاع اقتصادية ومالية عموما، وعلى مستوى الميزانيات المالية للحكومات، التي يمكن تصنيفها مجتمعة على أنها تمر بفترة غير مواتية مكتظة بكثير من التحديات والأعباء، جزء منها تراكم من بعد الأزمة المالية العالمية 2008، وجزء أكبر تراكم على كاهل الاقتصادات والحكومات من بعد الجائحة العالمية كوفيد - 19، وهو ما قد تشاهد نتائجه بشكل ملموس على مختلف أسواق الصرف والطاقة والسلع والمعادن والمال والعقار خلال الأشهر المقبلة، سيزيد من سخونتها ما يشهده العالم اليوم من ارتفاع وتيرة الصراعات الجيوسياسية في آسيا وأوروبا وإفريقيا، إضافة إلى زيادة الاضطرابات الداخلية في أكثر من بلد حول العالم، تدفع في مجملها إلى مزيد من ارتفاع درجات المخاطرة وسخونة الأحداث، وبالطبع فليس منطقيا أبدا نسب هذه التطورات الراهنة والمرتقبة إلى الصراع بين ارتفاع معدلات الفائدة وعناد التضخم في الطرف المقابل، فلا يتجاوز كونه جزءا معتادا من طبيعة الاقتصادات والأسواق، إنما اللافت مجيئه في فترة يعيش خلالها العالم والاقتصاد العالمي أوضاعا بالغة الاضطرابات، بل إن بعضها يحمل في طياته نقاطا مفصلية لتحولات عملاقة مرتقبة، ليس تشكل كارتلات اقتصادية عملاقة خارج تحكم الولايات المتحدة، وخارج سيطرة دولارها إلا أحدها ممثلا في مجموعة بريكس، التي تتأهب لأن تصبح أكبر حجما، وأكثر عددا على مستوى دولها الأعضاء.
تكاد تتفق رؤية عديد من الخبراء الاستراتيجيين على أن ما يشهده الاقتصاد العالمي تحديدا، والمجتمع الدولي بشكل عام، أن العالم منذ عدة أعوام مضت يتأهب نحو إعادة تشكله إلى واقع مختلف بدرجة كبيرة عما كان عليه منذ سقوط الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثة عقود زمنية، وأنه يتجه صوب ما سماه محمد العريان "العولمة المفتتة"، بمعنى وجود تكتلات تتوزع السيطرة على الاقتصاد العالمي، كنظام بديل عن النظام الرأسمالي الذي تزعمته الولايات المتحدة منفردة طوال العقود الثلاثة الماضية، وأنه النظام العالمي الجديد الذي سيتجاوز وفقا لتطلعات قواه الصاعدة بقيادة الصين، والقوى الاقتصادية الصاعدة في الشرق الأوسط، ما ظل يعانيه النظام الرأسمالي المتهاوي بقيادة الولايات المتحدة من جراء كثير من الاضطرابات والضعف، الذي سمح بتسلل الأزمات المالية والاقتصادية إلى هيكله، ودفع إلى تحمل بقية الأطراف في الاقتصاد العالمي تكاليف تلك الأزمات، رغم أنها لم تكن يوما سببا فيها، ما دفع تلك الاقتصادات إلى البدء بتأسيس نظام أكثر ديناميكية وعدالة منذ أعوام، وهو الأمر المشروع بالتأكيد لتلك القوى نظير امتلاكها الموارد والقدرات الكافية لتحقيقه، وقد بدأ فعليا تنفيذه كما يشهده العالم اليوم، وهو الطريق الذي سيشهد العبور العالمي إليه عديدا من التقلبات طوال الأعوام القليلة المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي