هل تفسر البراجماتية السلوك الأمريكي؟
يعد جون ديوي أحد الفلاسفة التربويين الأمريكيين الذين أثروا الساحة التربوية، والفلسفية، والسياسية بآرائهم المؤثرة في الفكر التربوي المعمول به في المدارس. ويعرف المذهب الديوي في التربية بالمذهب النفعي أو البراجماتي، ونظرا إلى تشبع متخذي القرار الأمريكي بمفهوم النفعية وإدراكهم أهميته في تنشئة الجيل وبناء عقله وطريقة تفكيره بما يعنيه ذلك من أثر واجب التحقق لدى كل فرد بغض النظر عن طبيعة العمل الذي يزاوله سواء كان سياسيا أو تجاريا أو طبيا، أو هندسيا، أو زراعيا، فقد سادت فلسفة ديوي وأصبحت السمة المميزة للنظام التعليمي، والأساس الذي تبنى عليه المناهج الدراسية وجميع عملياتها.
يرى ديوي أن التربية المدرسية يفترض أن تعنى باكتساب الفرد طريقة تفكير قائمة على التحليل والنقد، وحل المشكلات، وتحول المدرسة إلى بيئة تكتسب فيها الخبرات المباشرة بدلا من حفظ المعلومة والحشو المعرفي الذي لا يجدي نفعا في الحياة العامة، ولا يترتب عليه الوصول للهدف الذي رسمه الفرد لنفسه، ما يعني أن خللا ترتكبه المدرسة فيما لو انتهجت طريقة حفظ، وتكديس المعرفة في الذهن، دون معالجتها وغربلتها وربطها بمصلحة من المصالح.
نجاح العمل في نظر ديوي يعد المعيار الوحيد للحقيقة، فالنتائج هي الدليل على صواب الإجراء الذي اتخذه الفرد من أجل الوصول إلى هدفه، فالقرار المتخذ من قبل السياسي، أو منتج البضاعة أيا كانت يفترض فيه أن يؤدي إلى نتائج مثمرة في الواقع، بدلا من الارتكاز على فكرة ذات طبيعة أيديولوجية، أو قيمية، فالقيم في هذه الحالة تختفي في حال تعارضها مع المنفعة المبتغاة من القرار، أو الفعل، كما أن من مبادئ البراجماتية أن الأفكار والآراء ما هي إلا وسائل يستعان بها على الاستمرار في الوجود الذاتي، والسعي إلى تحقيق مزيد من المكاسب، ولو قدر للفرد ووجدت لديه أفكار متعارضة، فالفيصل في الأمر مقدار المنفعة المتحققة من أي هذه الأفكار، ولن تكون القيم الإنسانية، أو الدينية أساسا في الاختيار من بين هذه الأفكار، وهذا لا يعني أن الأمم الأخرى لا تسعى إلى منافعها، فهذا من طبيعة البشر، إلا أن التكوين العقلي، والنفسي، والأخلاقي المتأثر بمنظومة القيم يحد من النزعة النفعية.
ما من شك أن المنهجية التعليمية القائمة على المذهب البراجماتي السائدة في الميدان التربوي الأمريكي ستكون نتائجها موجهة للسلوك، وظاهرة على الأفعال والتصرفات الصادرة من الفرد، بل إن المنظمة أيا كانت طبيعتها ستنتهج نهج السعي لتحقيق المنفعة فقط، بلا اعتبار للآثار والكوارث المترتبة على الفعل، ولا غير. ولو قدر لنا وأسقطنا المذهب النفعي على فلسفة وتنظيم الحياة في أمريكا، وبالاستشهاد بتصريحات وتصرفات المسؤولين الأمريكيين ومؤسساتهم السياسية، لتأكد لنا أن المذهب البراجماتي هو الحاكم والمسيطر على طريقة التفكير، والقرارات المتخذة، سواء في العلاقات الدولية، أو في التنافس بين المؤسسات الداخلية، كما في التنافس بين الأحزاب، أو بين الشركات، وغيرها من منظمات الإنتاج الأخرى. وما تصريح جورج بوش الابن في الحرب على العراق "من ليس معنا فهو ضدنا" إلا تأكيد على تجذر النفعية المتطرفة، المغفلة لمصالح ومبادئ الآخرين، إضافة إلى شن الحروب، وغيرها.
كل هذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن التفكير النفعي بشعاره الغاية تبرر الوسيلة، هو تفكير مؤسسي وفلسفة نظام لا تتغير بتغير الرؤساء، وإنما الهدف واضح مصالح أمريكا أولا دون غيرها، وما الاختلاف إلا في التكتيكات. إن إدارة الصراعات في العالم، والإمساك بخيوطها، وليس السعي إلى إيجاد حلول لها، كما يقول كيسنجر، تمثل نهجا استراتيجيا لأمريكا تحقق من خلاله منافع جمة اقتصادية وسياسية على حساب الآخرين.