الليثيوم .. خريطة الصناعة تتغير

ازدهرت صناعة معدن الليثيوم حول العالم نظرا إلى التقدم الكبير والمتسارع في صناعة البطاريات المتنوعة التي يدخل هذا المعدن في تصنيعها بشكل أساس، وهو من أخف المعادن القلوية ويتفاعل بشدة مع الماء لينتج هيدروكسيد الليثيوم وغاز الهيدروجين وعند دمجه مع معادن مثل المغنيسيوم، فإنه يشكل سبيكة قوية للغاية. والليثيوم يستخرج حاليا من المناجم المكونة من الصخور الصلبة في معظم الدول، بينما تنتجه الأرجنتين وتشيلي والصين بشكل أساس من البحيرات المالحة، وتعد أستراليا أكبر مورد، وبلغ الإنتاج العالمي 737 ألف طن من مكافئ كربونات الليثيوم (LCE) في 2022 ويقدر أن يصل إلى 964 ألف طن في 2023 ويقفز بنحو 1167 ألف طن في 2024 وتعد هذه القفزات المتوقعة في إنتاج هذه المادة المهمة تشير إلى مستوى التنافسية المتوقعة، والاستثمارات الكبرى التي تتجه لهذه الصناعة.
وأشار تقرير لـ"الاقتصادية" في هذا الخصوص إلى أن صناعة هذا المعدن في الأرجنتين وصلت إلى مستوى قياسي، حيث ارتفعت الصادرات إلى ما قيمته 60 مليون دولار في مايو، بارتفاع 17 في المائة مقارنة بالشهر نفسه قبل عام، وأن الأرجنتين أصبحت المنتج الأسرع نموا في العالم، ولديها ثلاثة مناجم نشطة، و38 يجري تطويرها. ويقول الرئيس التشيلي إنه يسعى إلى تأميم صناعته في البلاد وينشئ شركة مملوكة للدولة لإنتاج هذا المعدن التنافسي. فتشيلي تمتلك أكبر الاحتياطيات في العالم وثاني أكبر منتج في العالم، وهناك مؤشرات لما تحظى به هذه الصناعة من تنافسية دولية بشكل سيغير وجهة هذه الصناعة في المستقبل، كما أن في ذلك إشارات مهمة للقضايا الجيوسياسية التي تنشأ مع النمو المطرد لهذه الصناعة. ففي دراسة لحالة الأرجنتين مثلا يظهر أن ارتفاع قيمة صادرات الليثيوم مكن الاقتصاد الأرجنتيني من النمو بنسبة 5.2 في المائة في إجمالي الناتج المحلي في 2022، وهو العام الثاني على التوالي من الارتفاع في سابقة منذ أكثر من عقد وتوقع صندوق النقد الدولي في أحدث تقديراته أن يسجل اقتصاد الأرجنتين نموا بنسبة 2 في المائة لهذا العام، في تباطؤ على غرار الاقتصاد العالمي، لكنه أعلى من المعدل في المنطقة البالغ 1.8 في المائة.
فصناعة استخراجه ترسم هيكل كثير من الاقتصادات العالمية، خاصة في أمريكا اللاتينية، التي يبدو أنها ستلعب دورا مهما في الاقتصاد العالمي في العقود المقبلة، خاصة أن الازدهار في صناعة استخراجه يسهم في تراجع الأسعار وبالتالي ازدهار صناعة البطاريات التي تدخل في صناعة السيارات الكهربائية، فالمشكلة الأساس التي تواجه صناعة السيارات الكهربائية حاليا هي ضخامة قيمة البطاريات، ما يجعل تلف البطاريات عائقا أمام النمو.
في تحليل لشركة ماكينزي يتوقع أن سلسلة إنتاج بطاريات الليثيوم أيون (Li-ion) بدءا من التعدين حتى إعادة التدوير، يمكن أن تنمو بنسبة تزيد على 30 في المائة سنويا حتى 2030، عندما تصل إلى قيمة أكثر من 400 مليار دولار وحجم سوق 4.7 تيراواط/الساعة، ويشير التقرير إلى أن الصين يمكن أن تمثل وحدها 45 في المائة من إجمالي الطلب المتوقع في 2025 و40 في المائة في 2030، ومن المتوقع أن يكون النمو أعلى مستوى عالميا في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
هذا الاتجاه المتصاعد في الطلب جاء مدفوعا بأمرين، الأول هو الاتجاه العام نحو توطين سلاسل الإمداد، والآخر هو الضغط واسع النطاق بشأن الوصول للحياد الصفري، إضافة إلى برنامج أوروبا "Fit for 55"، المتعلق بالمناخ وتقليل انبعاثات الاتحاد الأوروبي بنسبة 55 في المائة على الأقل بحلول 2030 وجعل ذلك التزاما قانونيا، وقانون خفض التضخم الأمريكي ومشاريع مثل حظر مركبات محرك الاحتراق الداخلي (ICE) في الاتحاد الأوروبي بحلول 2035، ولهذا تنبأ التقرير بأن العالم بحاجة إلى ما لا يقل عن 120 إلى 150 مصنعا جديدا للبطاريات إلى أن يتم بناؤها من الآن حتى 2030 على مستوى العالم. لكن التقرير الذي بدأ متفائلا عاد وقلل من قدرة العالم على ذلك نظرا إلى عديد من التحديات التي يعد نقص الإمدادات أكثرها خطورة ولذلك شدد التقرير على أن على مصنعي البطاريات تأمين إمداد ثابت لكل من المواد الخام والمعدات، وهنا يبدو التقرير كأنه يشير إلى ضرورة زيادة الاستثمارات بشأن تعدين الليثيوم، ما يعزز الاتجاهات القائمة فعلا.
هناك اليوم ولا شك سباق نحو الدخول في سلسلة إنتاج بطاريات الليثيوم بدءا من التعدين حتى إعادة التدوير وهذا السباق ستكون له تباعات جيوسياسية متنوعة وسيرسم ملامح الاقتصاد العالمي في العقدين الحالي والمقبل، والتحسن المستمر في ذلك وتنامي الاستثمارات في هذا الجانب ستكون لهما ضغوط كبيرة على أسواق إنتاج الطاقة الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي