الصناعة الألمانية ودوامة الأسعار

حذر خبراء اقتصاديون منذ بداية ارتفاع معدلات موجات التضخم إضافة إلى اندلاع أزمة الحرب الأوكرانية من أنه سينجم عن هذا الوضع كثير من المشكلات الاقتصادية في الداخل الألماني "أكبر اقتصاد أوروبي"، خصوصا تزايد خطر الدخول في دوامة الأسعار - الأجور إلى جانب أزمات أخرى في الغذاء والطاقة، مع بقاء معدل التضخم مرتفعا. وتزداد المخاوف من أنه حال توقفت واردات الطاقة الروسية فإن خطر حدوث ركود في القطاع الصناعي سيتعاظم، ويرى محللون من مؤسسات مالية واقتصادية ألمانية، زيادة خطر التضخم الدائم بسبب الأزمة الأوكرانية.
كما يتوقع أن تحدث دوامة الأسعار - الأجور على المدى البعيد، وأن كابوس التضخم وأزمة أوكرانيا بالفعل تهددان نمو الاقتصاد الألماني من كل الجوانب وعلى مختلف المستويات والقطاعات الحيوية.
يبدو واضحا أن وتيرة مسار الاقتصاد الألماني نحو الركود تتسارع. فأكبر اقتصاد في أوروبا يعاني مشكلات متعددة، بما فيها بالطبع الموجة التضخمية العالمية الحالية. كما أنه يسير وفق تعثرات واضحة لاقتصاد منطقة اليورو، واقتصاد الاتحاد الأوروبي ككل. ولم يخف المسؤولون في برلين قلقهم من هذا الوضع، ويسعون إلى تقليل الأضرار التي قد تتعاظم في هيكلية الاقتصاد المحلي. والواقع أن المشكلات الحالية، تشمل التصنيع والصادرات والعمالة، فضلا عن الجانب المتعلقة بارتفاع الأجور، التي تنعكس سلبا، وفق اتحاد الصناعات على الشركات، بل وتهدد بإفلاسها. وبصرف النظر عن مستوى المبالغة في هذا الأمر، إلا أن الأزمات التي يمر بها اقتصاد ألمانيا كبيرة، ومن المتوقع أن تستمر لفترة لن تكون قصيرة، خصوصا في ظل سياسة مالية لا تتحكم بها البلاد، بل البنك المركزي الأوروبي.
من الصعب رؤية مؤشر للنمو في ألمانيا وحتى في منطقة اليورو لهذا العام. فأغلب التوقعات تتحدث عن نمو صفري بحلول نهاية العام الجاري، في حين أن المؤشرات تدل على أن نمو الاقتصاد العالمي ربما يصل إلى 2.7 في المائة في هذه الفترة. وهذا يعني تراجعا كبيرا لمحركات الاقتصاد الألماني، التي تعاني نقصا شديدا في العمالة، ما يرفع الأخطار على النمو في المديين المتوسط والبعيد. وبالطبع يجري ذلك، وسط المعركة التي يبدو أنها لن تتوقف قريبا في ألمانيا وفي الساحة الأوروبية عموما، ضد التضخم الذي بلغ مستويات تاريخية، بينما وصلت معدلات الاقتراض إلى أعلى مستوى لها منذ 22 عاما، في سياق الفوز بالمعركة المشار إليها. وحتى التوقعات بارتفاع الإنتاج الألماني بنسبة 1 في المائة، وزيادة الصادرات بمعدل 2 في المائة، فإن ذلك لا يضمن عدم الوصول إلى دائرة الركود، بصرف النظر عن عمقه.
لكن المشكلة المحلية ضمن النطاق الاقتصادي الألماني، تكمن في خلل يربط الأجور عموما، وكفاءة الأداء الاقتصادي. فالجهات غير الحكومية المسؤولة عن التصنيع، تحذر من قبل الأزمة الحالية، وحتى قبل جائحة كورونا وآثارها في الحراك الاقتصادي عموما، تحذر من الإقدام على رفع الأجور في الوقت الذي لم تصل فيه كفاءة الاقتصاد إلى المستوى الذي يضمن المواءمة بين الأجور والأداء. وتتعمق المشكلة، عندما تضغط الأجور المرتفعة على موازنات الإنتاج في الشركات، إلى درجة أن هناك من يحذر من خروج بعضها من السوق لهذا السبب خصوصا. ومن هنا، فإن أداء الاقتصاد الألماني لا يسمح برفع الأجور. لكن هناك معضلة في هذه النقطة. فلا يمكن أن تبقى الأجور على حالها في الوقت الذي يضغط فيه التضخم على الحياة المعيشية للمواطنين.
لا شك أن الإصلاحات السريعة كفيلة بإعادة الاقتصاد الألماني إلى وتيرته الطبيعية. وهذا الاقتصاد قادر بالفعل، من جهة استدامته وقوته ومكاسبه السابقة على الانتقال إلى المرحلة المقبلة بخطا ثابتة، لكنه يحتاج إلى إعادة صياغة جديدة وفق المعطيات التي جلبتها الأحداث الحالية، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا وهي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. فهذه الحرب أضافت مزيدا من الضغوط على كاهل الاقتصاد الألماني "كما غيره من الاقتصادات المتقدمة"، وعمقت ارتفاع أسعار المستهلكين، الذي جلب ضغوطا من الناحية الاجتماعية، تماما كما فعل من جهة الإنتاج التصنيعي الألماني.
وتبقى النقطة الأهم في تحقيق النمو، وهي العودة التدريجية ما أمكن ذلك إلى سياسة التيسير النقدي، حتى إن لم تكن بالمستوى الذي كانت عليه قبل إطلاق موجة الرفع المتتالي للفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي. فهذا يعزز في النهاية أداء إنتاجيا مطلوبا الآن أكثر من أي وقت مضى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي