القرار الأكثر تأثيرا في الأسواق
ينتظر العالم بتلهف وقلق قرار مجلس الفيدرالي المقبل في تموز (يوليو) بشأن تحديد سعر الفائدة، وبصدوره تتخذ دول العالم خطوات اقتصادية جديدة نحو خفض معدلات التضخم وتخفيف الأعباء على الحياة الاقتصادية والمالية. ومن المعلوم أن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة FOMC تعقد ثمانية اجتماعات كل عام، لمراجعة الأوضاع الاقتصادية والمالية، وتحديد الموقف المناسب للسياسة النقدية، وفقا لأهداف طويلة المدى من أجل استقرار الأسعار والنمو الاقتصادي، وعلى الرغم من أن القرار يصدر عن 12 عضوا، فإن الرؤساء غير المصوتين يحضرون الاجتماعات ويتبادلون الآراء والأفكار ويسهمون في التقييمات الاقتصادية، ومنذ الأزمة المالية 2008 والأحداث العاصفة، التي مرت خلالها طورت اللجنة الفيدرالية أسلوبا فريدا تمثل في نشر مخطط نقطي يتضمن 19 رأيا "كل رأي يظهر كنقطة على الرسم البياني وكل نقطة تمثل رأي كل رئيس بنك فيدرالي"، ما يسهم في فهم التقلبات المحتملة في قرارات اللجنة وحجم الاختلاف في وجهات النظر.
وفي العادة تأخذ الأسواق بالمعدل المتوسط على أنه الرأي الأكثر احتمالا، الذي قد تلتقي الآراء عنده في نهاية الجولة، وفي المخطط النقطي ترى الأعوام على المحور الأفقي، ومعدلات الفائدة المتوقعة على المحور الرأسي. ورغم أن هذا المخطط يقدم معلومات مهمة للأسواق ومتخذي القرارات بشأن اتجاهات أسعار الفائدة، لكنه يقدم معلومات أكثر أهمية حول توقعات صناع القرار المركزي بشأن النمو الاقتصادي بشكل عام، والتضخم، وسوق العمل، وهذا يؤثر في عوائد المدخرات ومعدلات قروض المستهلك، وقروض بطاقات الائتمان.
وعلى ضوء هذه المقدمة عن المخطط النقطي للجنة الفيدرالية، فإن نتائج اجتماع حزيران (يونيو) الأخير كانت مثيرة للجدل بشكل واسع، فبينما أشار المخطط النقطي الذي رسمه صناع القرار في اللجنة إلى ارتفاع متوسط النقطة لعام 2023 إلى 5.625 في المائة من 5.125 في المائة، وهذا يعني ارتفاعين إضافيين بمقدار 25 نقطة أساس أو زيادة بمقدار 50 نقطة أساس هذا العام، فإن القرار الذي صدر كان بتثبيت سعر الفائدة دون تغيير في نطاق من 5 إلى 5.25 في المائة، لقد عد البعض هذا القرار تناقضا واضحا، أو أن اللجنة منقسمة بشكل صريح، ولم تتمكن من الاتفاق على قرار وسط، كما كانت السيرة منذ إعلان المخطط النقطي.
بعض المحللين كان يرى بأن اللجنة لم تتخذ قرارا، وعد ما صدر بمنزلة تجنب للقرار، وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" فقد رأى البعض بأن الاحتياطي الفيدرالي قد أعلن أول تأجيل في حملته القوية، التي استمرت 15 شهرا من رفع أسعار الفائدة الأربعاء الماضي، وذلك بعد عشر زيادات متتالية في أسعار الفائدة، وقد يرى البعض أن القرار يمثل توقفا مؤقتا مقترنا بموقف أكثر تشددا، لكن رئيس الاحتياطي الفيدرالي شن دفاعا قويا عن نهج البنك المركزي الأمريكي، الذي ترك بعض الاقتصاديين غير مقتنعين، حيث عد القرار بمنزلة التحرك بحذر أكبر، الذي يمنح الاحتياطي الفيدرالي مزيدا من الوقت لتقييم البيانات الاقتصادية المستقبلية والأضرار، التي أحدثتها الأزمة المصرفية الإقليمية الأخيرة، وسيسمح أيضا لصناع السياسات بقياس تأثير التشديد النقدي السريع الذي أتم عاما منذ آذار (مارس) الماضي، الذي ربما لم يظهر بعد بشكل كامل في الاقتصاد الحقيقي.
وبينما يناقش كثير من المحللين قرار المركزي الأمريكي، وهل هو تأجيل للقرار أم قرار تثبيت لسعر الفائدة فعلا، فإن المسألة الأهم من ذلك هي الأسباب الكامنة خلف هذا القرار، الذي يبدو متناقضا، هنا نقرأ بين الذين يدافعون عن نهج أكثر حذرا، وتأجيل قرار يتضمن مزيدا من التشديد قد يؤدي إلى ألم لا داعي له لاقتصاد لا يزال يبدو في ظاهره مرنا بشكل ملحوظ، بينما ترى مجموعة المتشددين أنه لم يحدث سوى تقدم ضئيل في إخماد التضخم، وهذا الوضع من الضبابية يعبر عنه رئيس البنك المركزي بعد الاجتماع، بل أوضح أن ارتفاع أسعار الفائدة لأكثر من عام لم يشق طريقه عبر الاقتصاد حتى الآن، وقال: "لقد رفعنا سعر الفائدة على سياستنا بمقدار خمس نقاط مئوية، واستمررنا في تقليل مشتريات الأصول بوتيرة سريعة ولم نشعر بعد بالتأثيرات الكاملة لتشديدنا"، مؤكدا أن الظروف، التي نحتاج أن نراها في مكانها لخفض التضخم تبدو في مكانها، وهي تعمل، لكنه عاد وتراجع بقوله إن النمو لا يزال دون الاتجاه بشكل ملموس، فهو يرى أن الطريق صحيح لكن تأثير ذلك في التضخم على الواقع سيستغرق بعض الوقت، وأيضا أن الآثار ستظهر قريبا في سوق الإسكان، حيث يتوقع أن تنخفض أسعار الإيجارات الجديدة.
هكذا تبدو الصورة العامة، هناك تفاؤل لكنه حذر، وتوقعات جيدة بشأن استجابة الاقتصاد وتراجع التضخم، ولكن المؤشرات لم تعط دليلا قويا، وهناك أمل بأن يكون القطاع العقاري مطلعا من المستجيبين لذلك، ولكن التناقض الصريح الذي ظهر بين صناع السياسية النقدية الأمريكية قد يجعل الأسواق قلقة، ولدفع حرج رئيس البنك المركزي سيبث اجتماع اللجنة المزمع عقده في تموز (يوليو) المقبل مباشرة، وهذه خطوة شجاعة بشأن الشفافية في آليات اتخاذ القرار الأكثر تعقيدا في الاقتصاد العالمي.