الجاذبية تحرك رؤوس الأموال
في وقت سابق من هذا العام، أصدرت وكالة فيتش تقريرا عن أثر تشديد الاحتياطي الفيدرالي في صافي تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة، وانتهى التقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" إلى أن صافي تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة انخفض، بخلاف الصين، بشكل حاد في العام الماضي، وقد قامت الوكالة بتحليل عشر أسواق ناشئة كبرى، واستثنت الصين نظرا إلى أن التدفقات النقدية لهذا البلد تتفوق على التدفقات إلى دول الأسواق الناشئة الأخرى. وتناقص صافي تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة خارج الصين في العام الماضي بمبلغ 120 مليار دولار "-2 في المائة" من الناتج المحلي الإجمالي، وأكد التقرير أن هذا المعدل كان أعلى من الانخفاض المسجل خلال الأزمة المالية العالمية في 2008.
وفي ورقة علمية صدرت عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يشير مفهوم "تدفقات رأس المال" إلى المعاملات المالية عبر الحدود المسجلة في الحسابات المالية الخارجية للاقتصادات، وينشأ إجمالي تدفقات رأس المال الداخلة عندما يتكبد الاقتصاد مزيدا من الالتزامات الخارجية "التدفقات الداخلة بعلامة إيجابية" أو عندما يخفض الاقتصاد التزاماته الخارجية "التدفقات الداخلة بعلامة سلبية".
وبالتالي، فإن التدفقات الإجمالية الداخلة هي صافي مبيعات الأدوات المالية المحلية للمقيمين الأجانب، وينشأ إجمالي تدفقات رأس المال الخارجة عندما يكتسب الاقتصاد مزيدا من الأصول الخارجية "التدفقات الخارجة بإشارة إيجابية" أو يقلل الاقتصاد حيازته من الأصول الخارجية، أي تقليص النفقات "التدفقات الخارجة بعلامة سلبية". ولذا، فإن إجمالي التدفقات الخارجية عبارة عن مشتريات صافية للأدوات المالية الأجنبية من قبل المقيمين المحليين. ويمكن أن ينخفض إجمالي التدفقات الخارجة إما بسبب انخفاض في حصول المقيمين على الأصول في الخارج، وإما بزيادة عدد المقيمين الذين يعيدون رأس المال إلى أوطانهم. وبناء على هذه التعريفات فإن صافي تدفقات رأس المال هو الفرق بين إجمالي التدفقات الداخلة والخارجة، ويعطي صافي التدفقات لبلد ما معلومات عن الاقتصاد الحقيقي ويعكس رصيد الحساب الجاري وما إذا كان بلد ما يعاني عجزا في الحساب الجاري ويتم تمويله عن طريق الاقتراض، فصافي التدفقات هو المقابل المالي لميزان الحساب الجاري، وعامل مهم في تحديد أسعار الصرف، وقياس صافي الإقراض أو الاقتراض للاقتصاد، ومقياس مهم للاستقرار المالي. وبالعودة إلى تقرير وكالة فيتش الذي انتهى إلى أن صافي تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة قد انخفض، فهذا يعني أن الاستقرار المالي لهذه الدول قد انخفض بشكل كبير فلا هي استطاعت أن تجذب مزيدا من الأموال الأجنبية ولا هي استطاعت أن تحد من عمليات شراء الأصول الأجنبية من قبل المقيمين. وهذا بالفعل يعود إلى تعافي الاقتصاد الصيني الجاذب الأكبر للاستثمارات والأموال، واستمرار الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة التي تضمن للمستثمر عوائد أفضل دون مخاطر.
لكن هذه الصورة الاقتصادية القاتمة للدول الناشئة يبدو أنها في الطريق إلى التحسن، ففي تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا نقلا عن معهد التمويل الدولي، يرى تزايد الاحتمالات بتجنب الاقتصاد الأمريكي الدخول في ركود هذا العام، وعودة التضخم إلى المستوى المستهدف، وتوقع نمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1 في المائة في 2023، وهو ما سيوفر، باقترانه مع توقعات بأن يبلغ التضخم مستوى معتدلا نسبته 3.1 في المائة سنويا في نهاية العام، بيئة مواتية للاستثمار في الخارج في الدول النامية. وهنا ستكون السعودية واحدة من الدول التي يتوقع المعهد الدولي ارتفاع تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إليها أربعة أضعاف على أساس سنوي عند 44 مليار دولار العام الجاري، وذلك مع زيادة إصدارات السندات بالعملات الأجنبية، وأيضا زيادة التدفقات على الأسهم، وهذا يشير إلي مستويات الاستقرار المالي للسعودية، الذي جاء نتيجة جهود كبيرة لتنويع الاقتصاد خلال الأعوام الماضية، كما أن رؤية المعهد الدولي تنطوي على آفاق إيجابية لتدفقات رؤوس الأموال على الأسواق الناشئة، وبحسب تقديرات المعهد، فإنه من المتوقع أن يزداد تدفق رؤوس الأموال الأجنبية على الأسواق الناشئة، وأن يتراجع تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج هذا العام.
هذا الرأي تؤيده وكالة فيتش بالنظرة الإيجابية للاقتصاد السعودي من جانب، كما أوردت في تقريرها المشار إليه سابقا أنه من المتوقع أن تتعافى التدفقات في 2024 مع خفض معدلات السياسة النقدية وتحسن نمو الأسواق الناشئة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة. لكن رغم هذا التفاؤل إلا أنه تجب دراسته بحرص، فليس كل الأسواق الناشئة ستكون بهذا الحظ خلال العام المقبل، فبحسب تقرير المعهد الدولي فإن دول أمريكا اللاتينية تعد الوجهات المفضلة للاستثمارات الأجنبية في الأسواق الناشئة، كما أبدى المعهد شكوكا في انسحاب الأموال من الصين وتركيا ودول أخرى.
ولهذا فإن المنافسة على تدفقات رأس المال الأجنبي ستتعاظم بين الدول الناشئة غير الجاذبة، فعليها أن تقدم عوائد جذابة ومضمونة، وتقديم خصومات في ظل مساعيها لبيع أصول عامة. وبشكل عام فإن الأشهر القليلة المتبقية من العام الحالي ستحدد ملامح العام المقبل عموما، وسيكون محظوظا من يستعد مبكرا للمنافسة على تدفقات رأس المال.