إغلاق المحطات النووية الألمانية .. هل كان القرار صائبا؟
يعود استخدام الطاقة النووية في ألمانيا للحصول على الكهرباء إلى ستينيات القرن الماضي، لكن ثار جدل واسع في ألمانيا بعد الحوادث المأساوية التي حدثت نتيجة كارثة فوكوشيما اليابانية في آذار (مارس) 2011، وقررت ألمانيا في أيار (مايو) 2011 التخلص التدريجي من كل محطات الطاقة النووية العاملة لديها بحلول 2022. وبدأت بالفعل التخلص التدريجي من مفاعلات الطاقة النووية منذ بداية القرن الحالي وسط حملات وهجمات إعلامية طويلة الأمد ضد التقنية النووية. وفي 2010، أعلنت أنجيلا ميركل، المستشارة السابقة لحكومة ألمانيا، تمديد عمر بعض محطات الطاقة النووية في البلاد حتى 2036، وكان هذا القرار قبل وقوع حادثة فوكوشيما اليابانية. لقد أوقفت ألمانيا 16 مفاعلا منذ 2003 وهي الآن في طريقها لإغلاق الباقي والخروج نهائيا من الطاقة النووية والتخلص من محطاتها في الشهر الحالي، حيث ستغلق آخر ثلاث محطات للطاقة النووية، على الرغم من أنها أجلت إغلاق المواقع الثلاثة بعد تخفيض روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا وإثارة مخاوف بشأن نقص الطاقة خلال فصل الشتاء. في 2022، توفر الطاقة النووية 6.5 في المائة من توليد الكهرباء في ألمانيا، ويشكل الفحم 30 في المائة وطاقة الرياح 22 في المائة والغاز 13 في المائة والطاقة الشمسية 10 في المائة، وتشكل طاقة الكتلة الحيوية والطاقة المائية النسبة المتبقية. فهل كان قرار إغلاق المحطات الألمانية النووية صائبا؟ ولماذا لم تتبع ألمانيا نهج مزيج الطاقة المستدام؟ وماذا سيحل بالفحم؟
إن لكل تقنية أو وقود لتوليد الطاقة تحدياته المرتبطة به. ومن المعروف أن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح مصادر نظيفة وتنافسية، لكنها حساسة ومتقطعة وغير ثابتة تبعا للموقع الجغرافي، كما تعتمد الطاقة الكهرومائية على الموقع الجغرافي أيضا، ولها فترات إنشاء طويلة وتكاليف رأسمالية عالية. ويتعرض الغاز الطبيعي الجاف والغاز الطبيعي المسال لقيود على العرض في الأسواق، ونتحدث هنا منذ العامين الماضيين خصوصا في أوروبا خلال الأزمة الروسية - الأوكرانية. ولا ننسى أو يغيب عن بالنا ارتفاع الأسعار في الأسواق على الرغم من انخفاض أسعار الغاز الطبيعي المسال في الأشهر الأخيرة. ومع أن الفحم هو الخيار الأسوأ على الإطلاق ومضر للبيئة، لكنه مع ذلك كان ملاذا وخيارا مرا لبعض الدول الأوروبية بما فيها ألمانيا خلال الأزمة الروسية - الأوكرانية. وتعد الطاقة النووية الأكثر أمانا والأنظف استخداما، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إضافة إلى الموثوقية العالية على عكس الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وأقل تقلبا في الأسعار على عكس الوقود الأحفوري، لكن لها أيضا فترة إنشاء طويلة الأمد وتكاليف رأسمالية عالية تتجاوز تكاليف الطاقة المائية. فقد راوحت التكاليف الرأسمالية لمحطات الطاقة النووية بين 7800 و12800 دولار أمريكي للكيلو واط في 2021، إضافة إلى تحديات عصيبة مثل الحصول على التراخيص ومراعاة الأنظمة القانوية وتأمين الوقود النووي وإدارة النفايات النووية. وتتجه بعض الدول إلى الطاقة النووية لتنويع مصادر الكهرباء وإيجاد مزيج الطاقة، ويجب أن تقوم الشركة المشغلة للطاقة النووية بتحسين أوراق اعتمادها ومتابعة التنظيم والرخص. وبمجرد أن يحدث أي خطأ في محطات الطاقة النووية، يتحول الموقف إلى كارثي وسياسي بالدرجة الأولى، ومن ثم يصرخ العامة بوقف محطات الطاقة النووية. لقد رسخت الحوادث النووية في جزيرة ثري مايل في الولايات المتحدة في 1979 وتشرنوبيل في 1986 الضغط الإعلامي ضد تقنية الطاقة النووية في ألمانيا، التي بدأت في وقت سابق في السبعينيات. وبعد أن تسبب زلزال تسونامي في انهيار المفاعلات في محطة فوكوشيما النووية في اليابان، ثارت زوبعة احتجاجات مناهضة للطاقة النووية في ألمانيا وعزم سياسي على الخروج من التقنية النووية.
لقد تركت عمليات الإغلاق في ألمانيا لغزا محيرا لواضعي السياسات في مجال الطاقة الذين يحاولون موازنة الطلب المتزايد على الكهرباء في إحدى أقوى الدول الصناعية الكبرى في أوروبا والعالم على خلفية حالة عدم اليقين التي سببتها الأزمة الروسية - الأوكرانية. وأثارت عمليات الإغلاق النهائية أسئلة كثيرة حول أمن إمدادات الطاقة والتوقعات لانبعاثات الكربون بسبب استخدام الفحم. وعلى الرغم من أن المخطط برلمانيا إغلاق جميع محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بحلول 2038، إلا أن البرلمان الألماني وافق العام الماضي على قانون طارئ لإعادة فتح محطات الطاقة المتوقفة التي تعمل بالفحم للمساعدة على توليد الكهرباء إبان الأزمة الروسية - الأوكرانية، والدفع مجددا لبناء مزيد من المحطات لاستيراد الغاز الطبيعي المسال ومحطات تخزين الغاز. هل تعلم أن ألمانيا وبولندا ستكونان أكبر منتجين في الاتحاد الأوروبي للكهرباء التي تعمل بالفحم في 2030 إذا استمرا كما هما عليه الآن؟ وستكونان مسؤولتين عن أكثر من نصف انبعاثات الطاقة في الاتحاد الأوروبي. وبينما الفحم يعمل في ألمانيا لتوليد الكهرباء، يجري العمل على إيقاف مفاعلات الطاقة النووية وهدر القدرات النووية البشرية.
لم يكن تحول الطاقة في ألمانيا اقتصاديا ولا بيئيا، وقد ترتفع أسعار الكهرباء مجددا على المستخدم النهائي مع العلم أن محطات الطاقة النووية تنتج الكهرباء بأسعار تنافسية مقارنة بغيرها. ولقد وصل متوسط التكلفة التشغيلية للكهرباء لمحطات الطاقة النووية في العالم إلى أقل من خمسة سنتات لكل كيلو واط/ساعة، في حين بلغت 2.8 سنت لكل كيلو واط/ساعة في إحدى محطات الطاقة النووية في السويد. وبالفعل أصبح مزيج الطاقة الألماني محيرا وموضع شك وارتياب في الاستدامة بكل أشكالها الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وكان اتخاذ الحكومة الألمانية اللجوء إلى الفحم للمساعدة على أمن الطاقة مثيرا للجدل. لكن قد تستند ألمانيا إلى جارتها البارة فرنسا بالإمداد في حالة النقص، ومن السخرية أن فرنسا ذاتها تعتمد على الطاقة النووية بصورة أساسية في إنتاج الكهرباء. وبينما تبتعد ألمانيا عن الطاقة النووية، نرى فرنسا وبريطانيا وفنلندا وسلوفاكيا وبولندا والتشيك تتجه إلى بناء محطات طاقة نووية جديدة، ما قد يوجد جدلا واسعا داخل البيت الأوروبي.