ضغوط مالية وتداعيات تضخمية
أصبحت مشكلة أهداف البنوك المركزية المتعلقة بالتضخم والاستقرار المالي متعارضة بشكل لافت للغاية، وتعد تجربة بنك سيليكون فالي الأخيرة التي اهتز النظام المصرفي بسببها في بعض الدول، حيث يعد البنك الـ16 الأكبر في الولايات المتحدة، أوضح دليل بشأن هذا التعارض بين أهداف البنوك المركزية المتعلقة بالتضخم والاستقرار المالي. وقد استثمر البنك أمواله في سندات الخزانة متوسطة وطويلة الأجل دون التحوط من مخاطر أسعار الفائدة، وأدى الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة إلى انخفاض قيمة السندات طويلة الأجل ما تسبب في ذعر المودعين الأثرياء من أن بنك سيليكون فالي قد يكون مفلسا إذا قومت السندات التي استثمر فيها بسعر السوق، هذا الأمر أصبح حقيقة مع هروب ربع قاعدة ودائع البنك في أقل من يوم ودفع بنك سيليكون فالي إلى عمليات بيع إجبارية للسندات عند سعر السوق مع خسائر فادحة، وبقي السؤال حتى الآن فيما لو لم يدب الذعر بين أصحاب الودائع، ولو انتظر البنك حتى مواعيد الاستحقاق فهل سينهار؟ هذه الحال وما تلاها من انهيارات في عدد من البنوك العالمية أكدت مدى هشاشة النظام المالي وفقاعات الأصول.
وفي هذا الصدد أثار تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا القلق بشأن الضغوط المالية التي تتعرض لها البنوك في العالم، وما إذا كانت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة، ستتراجع قريبا عن تشديد السياسة النقدية وتتجه مرة أخرى نحو التيسير، ما يلفت النظر في التقرير هو الربط الواضح بين هذه الأسئلة، وحالة الرهن العقاري، ويلخص التقرير المشهد العالمي في أن قرارات البنوك المركزية ستؤثر في مواردنا المالية الشخصية، وبالنسبة إلى أصحاب المنازل الذين يتطلعون إلى إعادة تمويل قروضهم خلال الأشهر المقبلة، فإن أي تشديد إضافي من قبل هذه البنوك المركزية سيرفع تكاليف الرهن العقاري.
ويرى التقرير الذي ناقش آراء خبراء عدة في هذه الصناعة أن إصلاح هذا الوضع يتطلب زيادة في قاعدة رأسمال النظام المصرفي، وزيادة متطلبات رأس المال عندما يكون أداء الاقتصاد سيئا، وكما هي الحال الآن، يؤدي إلى الركود لأنه يقلل قدرة البنوك على الإقراض، وهذا يعود إلى المشكلة المتعلقة بالتعارض بين معالجة التضخم والاهتمام بالاستقرار المالي. يوضح المحافظ السابق ونائب محافظ بنك الاحتياطي الهندي الأسباب التي أدت إلى هذه الحال، فالتيسير الكمي للبنوك المركزية منذ الأزمة المالية بشراء الأوراق المالية بكميات كبيرة من الأسواق، أدى إلى توسع ميزانيات البنوك وحشوها بالودائع غير المؤمنة، ما ساعد على حدوث نقطة ضعف في النظام المالي تتعلق بسوء تخصيص رأس المال لأن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية تبقي طويلا على الشركات غير المربحة على قيد الحياة، كما لاحظ أن البنوك لم تعد تخضع للمستوى نفسه من التدقيق واختبار الضغط، ما تسببت في هجرة القروض العقارية التجارية المحفوفة بالمخاطر من البنوك الكبيرة ذات رأس المال الأفضل إلى البنوك الصغيرة والمتوسطة ذات رأس المال الضعيف.
ومع تشدد السياسات النقدية اليوم على الجميع، فإن احتمالات إفلاس الشركات والبنوك تتزايد حيث إن إجمالي عدد حالات إفلاس الشركات المسجلة في المملكة المتحدة 2022 كان الأعلى منذ 2009 وأعلى 57 في المائة من 2021، بينما تقدر مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية أن خسائر البنوك الأمريكية غير المحققة على الأوراق المالية كانت 620 مليار دولار في نهاية 2022، ويفسر تقرير "الاقتصادية" هذه النتيجة بأن التحول من التيسير الكمي إلى التشديد الكمي والزيادة الحادة في أسعار الفائدة إلى فرض اختبار ضغط هائل على كل من النظام المالي والاقتصاد الأوسع، وما يجعل الاختبار مرهقا خصوصا هو الزيادة الهائلة في الديون التي شجعت عليها أعوام من الأموال السهلة.
وخلاصة ما تقدم أن هناك اختبار ضغط هائلا ومستمرا على البنوك، مع تشديد السياسات النقدية، وتقدم أولوية خفض التضخم قد يجعل فرص الهبوط الصعب أكثر احتمالية، هذا الهبوط الصعب قد يجعل من الصعوبة بمكان للشركات غير المربحة أن تجد تمويلا جديدا للبقاء على قيد الحياة مدة أطول، ما يعني ارتفاع الاحتمالات بحدوث مزيد من حلالات الإفلاس العالمية، وبالنسبة إلى المقترضين بضمان الرهن العقاري، فإن لجنة السياسة المالية التابعة لبنك إنجلترا تقدر بأن نصف قروض الرهن العقاري في المملكة المتحدة البالغ عددها أربعة ملايين للمالكين الذين يسكنون تلك العقارات ستتعرض لارتفاع أسعار الفائدة في 2023، ما يزيد مخاوف القدرة على تحمل مدفوعات الرهن العقاري ما لم يحدث تراجع واضح بشأن التضخم، وفي ظل هذه الحال فإن الاستثمار في البنوك قد يضعف طالما كانت العوائد في البنوك ضعيفة.
على هذا فإن الرهان الذي تقوم به البنوك المركزية هو خفض التضخم في الوقت المناسب، وذلك يعتمد جزئيا على قدرة الصين على مد العالم بالسلع المناسبة في الوقت المناسب، واستمرار سلامة الإمدادات العالمية، وفي ظل التوترات الجيوسياسية فإن هذه المراهنة غير مضمونة.