البلاستيك والتلوث .. من يدفع الثمن؟
تعد مدينة كارويزاوا وسط اليابان من المدن السياحية الأنيقة، ولهذا يعقد فيها بشكل دوري كثير من الأحداث السياسية والاقتصادية والرياضية، وهي مدينة ملهمة لإثارة القضايا التي تتعلق بالبيئة والابتكار، والتحولات الناتجة عن استخدام الطاقة المتجددة، سواء في اجتماعات الدول العشرين التي عقدت فيها 2019، أو اجتماعات دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى التي عقدت أخيرا، وتعهدت فيها الدول الصناعية الكبرى بإنهاء أي تلوث بلاستيكي جديد في دولها بحلول 2040، فيما ستبدأ في نهاية أيار (مايو) جولة جديدة من المفاوضات في باريس للتوصل إلى معاهدة ملزمة قانونا تحت رعاية الأمم المتحدة بحلول نهاية 2024، ومن بين الإجراءات الرئيسة قيد التفاوض، فرض حظر عالمي على المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، واعتماد مبدأ "جعل الجهات المسببة للتلوث تدفع"، وفرض ضريبة على إنتاج كميات البلاستيك الجديدة.
ويتمثل خطر البلاستيك على اليابسة بشكل كبير في تلك الأراضي المخصصة لمكبات النفايات البلاستيكية، فنظرا إلى تكدس كميات كبيرة من النفايات، تكثر بعض الكائنات الحية الدقيقة التي تسرع من عملية التحلل البيولوجي للمواد البلاستيكية، ما يؤدي إلى إنتاج غاز الميثان، وهو الغاز المساهم بالدرجة الأولى في حدوث الاحتباس الحراري. بعض الدول تعمل على تركيب أجهزة لتجميع الغاز من مكبات النفايات والاستفادة منه في إنتاج الطاقة، لكن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه في جميع أنحاء العالم، ما يجعل المشكلة قائمة حتى هذه اللحظة. إضافة إلى تأثر آبار المياه الجوفية بسموم المخلفات البلاستيكية، وبالتالي تصبح غير صالحة للشرب.
وقد تم العثور على بقايا البلاستيك في كل مكان تقريبا، من القطب الشمالي إلى القارة القطبية الجنوبية، في المدن الصغيرة والكبيرة، وفي القرى، وفي المخيمات والحدائق الوطنية، بل تتراكم حتى على جبل إيفرست، بحسب تقارير مختلفة عن البيئة، ويزداد انتشار البلاستيك في كل محيطات العالم، حيث تم العثور على جبال من النفايات البلاستيكية في جزيرة مرجانية صغيرة غير مأهولة في وسط المحيط الهادئ، كما تمت ملاحظة وجوده في أعمق بقعة على الأرض في خندق ماريانا الذي ينخفض إلى عمق 10994 مترا تحت مستوى سطح البحر، وهناك اليوم بقع ضخمة من البلاستيك العائم تدور ببطء في وسط المحيط الهادئ. فالتلوث البلاستيكي اليوم بلغ حدا أصبح فيه أكبر تهديد قائم للنباتات والحيوانات والبشر، فهذه المواد لا تتحلل بسهولة ويتطلب الأمر ألف عام لذلك، حتى لو تم ذلك فهي تتسرب كمواد سامة إلى التربة والمياه، وحاليا لا تتم إعادة تدوير هذه المواد كثيفة الاستخدام إلا بكميات قليلة.
ووفقا لتقرير لبرنامج الأمم المتحدة المعني بالبيئة، يحذر علماء من أن تأثير اللدائن الدقيقة في التربة والرواسب والمياه العذبة سلبي وطويل المدى في النظم البيئية الأرضية، سواء في اليابسة أو في البحر، ولفتوا النظر إلى أن تلوث الجسيمات البلاستيكية على اليابسة أعلى بكثير من تلوث الجسيمات البلاستيكية البحرية، الذي يقدر بنحو أربعة إلى 23 ضعفا، حيث يتم إنتاج أكثر من 400 مليون طن من البلاستيك على مستوى العالم كل عام، وتشير التقديرات إلى أن ثلث النفايات البلاستيكية ينتهي بها المطاف في التربة أو المياه العذبة.
ويتفكك معظم هذا البلاستيك إلى جزيئات أصغر من خمسة ملليمترات، ويشار إليها باسم اللدائن الدقيقة، وتتحلل أكثر إلى جسيمات نانوية، يقل حجمها عن 0.1 ميكرومتر، وقد لاحظ الباحثون أن مياه الصرف الصحي هي عامل مهم في توزيع اللدائن الدقيقة، حيث توجد بين 80 إلى 90 في المائة من الجسيمات الموجودة في مياه الصرف الصحي، مثل تلك الموجودة في ألياف الملابس وفي الأغلب ما يتم استخدام مياه الصرف الصحي بطرق مختلفة، ما يعني أن عدة آلاف من الأطنان من اللدائن الدقيقة ينتهي بها المطاف في التربة كل عام، ليس هذا فحسب، فلقد ظهر للباحثين أن أسطح شظايا البلاستيك الصغيرة تحمل كائنات مسببة للأمراض وتعمل كناقل للأمراض في البيئة.
وفي 2020، كان مصدر أكثر من نصف المواد البلاستيكية من آسيا، ويمثل إنتاج الصين وحده ثلث الإجمالي العالمي "32 في المائة"، وأنتجت أوروبا 55 مليون طن من البلاستيك، وتشير التقديرات الواردة في تقرير الصندوق العالمي للطبيعة في أيلول (سبتمبر) 2021، إلى أن إنتاج البلاستيك العالمي سيتضاعف بحلول 2040 و"سيسرع أزمة المناخ، وبحسب الاتجاهات الحالية، سيرتفع استخدامه في جميع دول مجموعة العشرين بحلول 2050 إلى نحو ضعف المستوى المسجل 2019، ليصل إلى 451 مليون طن سنويا، وتقدر منظمة الأمم المتحدة أن كمية البلاستيك التي تلقى في المحيطات ستتضاعف ثلاث مرات تقريبا بحلول 2040".
أمام هذه الحقائق المفزعة، فإن البلاستيك يعد أكبر عدو يحيط بالإنسانية جمعاء، وهو يطبق علينا من كل مكان ويعمل في صمت، ونحن الذين نغذي هذا العدو ونضخم من حجمه، بينما هو يتربص بنا في اليابسة وفي البحر، وفي الهواء، ورويدا نقترب من نقطة اللاعودة، وتصبح الإنسانية جمعاء أسيرة هذا العدو متعاظم القوة، ومع الأسف لم يتم إنجاز شيء من كل الوعود، التي قطعت منذ بدأ العلماء يحذرون من سطوة هذا العدو، وإذا كان الشعار الذي رفعته الدول السبع في اجتماعها الأخير واعتماد مبدأ "جعل الجهات المسببة للتلوث تدفع"، قد يوحي بأن الضرائب ستؤتي ثمارها، فإنه لن يقدم أكثر من جعل المستهلك النهائي يدفع الثمن لمنتجات لا يستطيع تسلمها إلا في مغلفات الشركات التي ليس له عليها سلطة، فقد أشارت تقارير لوكالات الأنباء العالمية إلى أن 20 شركة في العالم هي المسؤولة عن نصف ما ينتجه العالم من مواد بلاستكية ذات الاستخدام الواحد، فالضرائب لن تجدي نفعا كبيرا، فقد فرضت قيود وضرائب على المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد في أكثر من 120 دولة، لكنها لا تفعل ما يكفي للحد من التلوث. الحقيقة أن هناك إدمانا من البشر على هذه المواد باستخدامها في جميع مناحي الحياة، ويجب أن يتم التعامل مع الأمر بصرامة أكثر، وأن يتم تشكيل منظمات عالمية ذات دعم كبير وسخي من أجل إيقاف هذا التدهور الضخم والخطير.