تكتيك تعزيزي لقوة «الرنمينبي»
يبدو واضحا أن التطورات الراهنة على الساحة الدولية، وفي مقدمتها الحرب الدائرة في أوكرانيا، إضافة إلى حالة عدم اليقين بصورة عامة، دفعت العملة الصينية الرنمينبي، إلى مزيد من الحضور على الساحة التجارية العالمية بشكل عام، والتبادلات التجارية بين بكين وعدد محدود من الدول. فقد ارتفع بالفعل نصيب هذه العملة في التمويل التجاري، منذ بدء الحرب المشار إليها، ويعود ذلك أساسا إلى الاتفاقيات التجارية التي تمت بين الصين وروسيا، وتضمنت الاعتماد على عملتي البلدين بصورة أكبر في التعاملات التجارية، خصوصا أن روسيا تعيش منذ أكثر من عام تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الغربية المتشددة. وخلال الأشهر الماضية، تضاعفت حصة الرنمينبي، في عمليات التمويل ككل، ما يعزز الخطوات التي تسعى إليها الحكومة الصينية، لجعل عملتها الوطنية محورية في كل التعاملات.
ولا شك أن الأمر يرتبط أيضا، بارتفاع تكلفة التمويل بالدولار، التي وصلت إلى مستويات قياسية عالية، بفعل الزيادات المتعددة للفائدة، ضمن محاولات المشرعين الأمريكيين كبح جماح التضخم. والحق أن هذه الفائدة، ضغطت كثيرا على الدول النامية من جهة ديونها المقومة بالدولار، بارتفاع تكاليفها. أي أن الساحة عموما مواتية لتقدم العملة الصينية على صعيد التعاملات العالمية، كما أنها تدعم علاقات بكين بالعواصم الأخرى المقربة سياسيا واقتصاديا منها، كما هي الحال مع موسكو، التي تعاني مشكلات مركبة نتيجة العقوبات الغربية المشار إليها. فالصادرات الروسية إلى الصين "وهي في أغلبيتها صادرات بترول وغاز" ارتفعت بمعدلات لافتة منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وتم تمويلها بالفعل بعملة الصين الوطنية، مستفيدة من حسومات في الأسعار، إضافة طبعا إلى المعايير اللوجستية السهلة.
صحيح أن "الرنمينبي" لا يزال ضمن النطاق الأقل من غيره من العملات الرئيسة، لكنه في المرحلة الماضية اقترب بصورة أو بأخرى من اليورو في التمويل التجاري العالمي. وتكفي الإشارة هنا إلى أن العملة الصينية حققت ارتفاعا في عمليات التمويل عبر منصة "سويفت" قبل شهرين من 2 إلى 4.5 في المائة من إجمالي التمويل العالمي ككل. في حين إن حصة اليورو في التمويل التجاري عالميا لا تزيد على 6 في المائة. وهذا يعني، أن الصين يمكنها أن تصل إلى مستويات العملة الأوروبية في العام الحالي، إذا ما استمر زخم الحراك التجاري بينها وبين عدد من الدول الأخرى، وفي مقدمتها روسيا. علما بأنه لا اليورو ولا الرنمينبي يمكنهما تجاوز الدولار، الذي يمثل أكثر من 84 في المائة من حجم التمويل التجاري العالمي.
لكن بصرف النظر عن أي اعتبارات لارتفاع حصة الرنمينبي في التمويل التجاري، فإن الأزمة الراهنة التي خلفتها الحرب في أوكرانيا تبقى الأهم في التحولات الراهنة على صعيد العملة الصينية. علما بأنه يمكن لبكين البناء عليها في المستقبل. فهذه الأخيرة تسعى منذ أعوام إلى تحقيق ما يمكن وصفه بـ"تدويل الرنمينبي"، علما بأن المساحة الزمنية للوصول إلى هذه النقطة لا تزال بعيدة، غير أن عوامل ومتغيرات كثيرة يمكن أن تحدث وتدفع بهذا الاتجاه. بالطبع لا أحد يتوقع منافسة أي عملة في مجال التمويل التجاري للدولار، على الأقل في المستقبل المنظور، لكن يمكن أن تأخذ عملات مثل الرنمينبي حصصا في التعاملات التجارية، ما يعزز وجودها ضمن شبكة العملات الرئيسة.
ولا شك في أن تنمية العلاقات الثنائية أكثر بين بكين وموسكو في المرحلة المقبلة، سترفع من حصة العملة الصينية في التمويل التجاري. ففي العام الماضي بلغ التبادل التجاري بين البلدين 185 مليار دولار، حيث دفعت الشركات الروسية ثمن مشترياتها بالرنمينبي.