منافسة صينية - أمريكية للسيطرة على صناعة التعدين العالمية .. الاندماج والاستحواذ عنصر حاسم

منافسة صينية - أمريكية للسيطرة على صناعة التعدين العالمية .. الاندماج والاستحواذ عنصر حاسم
منافسة صينية - أمريكية للسيطرة على صناعة التعدين العالمية .. الاندماج والاستحواذ عنصر حاسم

حتى الآن ترفض شركة تيك للموارد -إحدى ركائز صناعة التعدين في كندا- العروض المقدمة لها من عملاق تجارة السلع والتعدين شركة جلينكور البريطانية - السويسرية لتوقيع صفقة لاندماج الشركتين.
الرفض الأخير جاء على الرغم من إعلان شركة جلينكور استعدادها لدفع مبلغ 23 مليار دولار للشركة الكندية لإتمام صفقة الاندماج. وبررت شركة تيك للموارد رفضها بأن المبلغ المقترح غير كاف ويقيمها بأقل من قيمتها الحقيقية.
بغض النظر عما ستسفر عنه المفاوضات في نهاية المطاف، فإن عملية الاندماج بين الشركتين يمكن أن ينتج عنها دمج أعمال المعادن التابعة لهما وإدراجها في لندن في مشروع بقيمة 100 مليار دولار.
تكشف تلك التحركات في مجال التعدين عن أن الصناعة تتعافى بعد فترة من أصعب الفترات التي مرت بها منذ عقود، فتقلبات السوق وتراجع أسعار السلع الأساسية أوجد حالة جديدة تكون فيها تخفيضات التكلفة والأتمتة والكفاءة التشغيلية جوهر النجاح والعامل الرئيس لتحقيق معدلات ربح مرتفعة، وهذا تحديدا هو منطق التفكير السائد في مفاوضات الدمج بين "جلينكور" و"تيك للموارد".
لكن في الوقت ذاته فإن القضايا الخاصة بصناعة التعدين والمتعلقة بالتنظيم والمخاطر الجيو- سياسية والمنافسة المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة في السيطرة على صناعة التعدين، والقيود القانونية المتزايدة للحد من استنزاف الموارد الطبيعية وضعت تحديات إضافية أمام الصناعة.
مع هذا يعتقد عديد من الخبراء أنه على الرغم من عدم اليقين المهيمن على الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، ومخاوف الركود، ومعدلات التضخم المرتفعة، فإن الطلب على المعادن سينمو في الأعوام المقبلة، وسيكون هناك كثير من الاتجاهات التي ستحدد أنواع شركات التعدين التي ستسود في المستقبل. ويطرح ذلك تساؤلات حول العوامل التي ستشكل قطاع التعدين والمعادن من الآن وحتى منتصف القرن الحالي على الأقل.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" المهندس ريفير ويستون نائب الرئيس التنفيذي لشركة المعادن جراتلاند جولد "إنه من المتوقع أن يكون الطلب على معظم المعادن مرتفعا خلال العقود المقبلة من أجل تحقيق انتقال الطاقة، فالوقود التقليدي ساعد على تحسين مستويات المعيشية لسكان الكرة الأرضية منذ منتصف القرن الـ18، لكن انبعاثات الغازات الدفيئة لها عواقب على الكوكب، وأنظمة النقل والطاقة منخفضة الانبعاثات أكثر كثافة في استخدام المعادن من نظيرتها القائمة على الوقود التقليدي، ومن ثم عملية التحول في مجال الطاقة تعزز الاستخدام للمعادن وتمنح قطاع التعدين فرصة كبيرة، وستكون شركات التعدين التي تشغل عملياتها بالطاقة المتجددة، وتستخدم أساطيل من الشاحنات التي تعمل بالكهرباء أو الهيدروجين، وتدمج إعادة التدوير في سلاسل القيمة الخاصة بها، أفضل مكان لبيع المعادن المتميزة منخفضة الكربون".
ويضيف "لكن زيادة الطلب على المعادن تواجه حاليا اتهامات باستنزاف الموارد المعدنية ذات المستوى العالمي خاصة في المناطق منخفضة المخاطر".
يدفع هذا الأمر من وجهة نظر الدكتورة إيمري ليجند أستاذة علم المعادن في جامعة بورتسموث إلى الربط بين مستقبل شركات التعدين والحاجة إلى المغامرة فيما تسميه مناطق التعدين الحدودية.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الطلب الكثيف على المعادن منذ الثورة الصناعية حتى الآن أدى إلى تقلص الاحتياطات في مناطق الاستخراج التقليدية، وهذا يعني أن شركات التعدين لتكون قادرة على مواجهة الطلب المتزايد عليها أن تلجا إلى حل من اثنين، فإما التوصل إلى تقنيات جديدة قادرة على الاستخراج ومعالجة نضوب المناجم القديمة أو المغامرة في المناطق الحدودية حيث لم يكن الاستخراج مجديا اقتصاديا في السابق، لكن التقدم في مجال الاتمتة والرقمنة يجعلان التعدين أكثر فاعلية".
وتضيف "التطور التكنولوجي يعزز بلا شك إمكانية أن تشهد مناطق التعدين ذات المخاطر العالية مستويات متزايدة من الاهتمام من قبل المستثمرين، حيث يتم التعدين في أماكن غير تقليدية مثل أعماق البحار او الكويكبات، والتقنيات المستحدثة ستفتح طريقا جديدا لشركات التعدين لتحسين تثمين الموارد الحالية أو السماح بالوصول إلى موارد جديدة، لكن هذا التطور يجب أن يأخذ في الحسبان الجوانب البيئية بحيث لا تتم عملية التعدين على حساب البيئة".
مع هذا لا تكف شركات التعدين العالمية عن الشكوى والتذمر من التأثير السلبي للتحديات الجيوسياسية المتزايدة والحمائية الاقتصادية على أنشطتها، كما زاد في الأعوام الأخيرة إقرار بعض من تلك الشركات من أن التدمير والسلب الذي مارسته لقرون في البيئات الغنية بالمعادن مثل القارة الإفريقية قد أوجد مناخا من العداء الشعبي لها، هذان العاملان دفعا صناع السياسات في البلدان الغنية بالمعادن إلى سن مزيد من القوانين واللوائح التي تمثل في بعض الأحيان عائقا أمام شركات التعدين للاستثمار.
يضاف إلى ذلك اتجاه عديد من الاقتصادات الناشئة إلى إلزام شركات التعدين بمعالجة المعادن قبل تصديرها لزيادة الفوائد التي تجنيها المجتمعات المحلية، في الوقت ذاته كانت قيود الاستيراد على المنتجات شبه المصنعة مثل الصلب والألمنيوم في قلب النزاعات التجارية في الأعوام الماضية، ما يزيد المخاوف لدى شركات التعدين بأن يتسبب ذلك في خفض الطلب الدولي على المعادن، وتعطيل سلسلة القيمة لشركات التعدين.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" آندرو إيفرت الباحث في مجال الطاقة المتجددة "زيادة قيود التصدير على المعادن الحرجة مثل الكوبالت والليثيوم والمواد الأخرى ذات الأهمية الحاسمة لانتقال الطاقة يبطئ الانتقال إلى اقتصاد أكثر اخضرارا".
ويضيف "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أشارت في تقرير جديد لها إلى أنه على مدى العقد الماضي زادت قيود التصدير على المعادن المهمة أكثر من خمسة أضعاف وأغلب تلك القيود في شكل ضرائب، وخلال الفترة من 2009 إلى 2020 ارتفع العدد الإجمالي لضوابط التصدير على المواد الخام الصناعية من 3337 إلى 18263 ضابطا، وفي الوقت الراهن يواجه ما يقرب من 10 في المائة من القيمة العالمية لصادرات المواد الخام الحرجة إجراء واحدا على الأقل لتقييد الصادرات".
تلك التعقيدات التي تواجه قطاع التعدين دفعت إلى التساؤل عن الإجراءات التي يجب أن يتبناها ليمتلك القدرة على التعامل مع ما يواجه من تحديات، بل وكيفية الاستعداد للتعامل مع التغيرات التدريجية التي يمر بها الاقتصاد الدولي التي تعيد تشكيل وجه الاقتصاد العالمي.
تتبلور قناعة مجموعة كبيرة من الخبراء في أن الخطوة الأولى التي يجب أن تتبناها شركات التعدين للتعامل مع ما تشهده السوق من تحديات، تكمن في حرص الشركات الكبرى على بناء إطار عام للصناعة يتسم بالشفافية ويعزز المبادئ البيئية والاجتماعية، لتكون لديها القدرة على العمل بنجاح في السوق العالمية، وعلى الرغم من أن الوعي بهذه المبادئ قطع شوطا لا بأس به بين شركات التعدين منذ أن تأسس المجلس الدولي للتعدين والمعادن عام 2001، إلا أن طبيعة قطاع التعدين ذاته التي يطغى عليها الطابع متعدد الجنسيات في الاستخراج والنقل والإنتاج تتطلب مزيدا من الترسيخ لقيم الشفافية والالتزام بمعايير عالمية مقبولة من الجميع.
لكن ويسلي أطلس نائب رئيس اتحاد عمال الصناعات المعدنية يرى أن منهج التفكير السائد حاليا في شركات التعدين بشأن تطوير الصناعة لتتلاءم مع التغييرات الدولية قد ينعكس سلبا على القوة العاملة في مجال التعدين واستخراج المعادن.
ويؤكد لـ"الاقتصادية"، أن "التقنيات الجديدة تتطلب قوة عمل مدربة تدريبا عاليا وتتمتع بمهارات رفيعة المستوى لتكون قادرة على تشغيل الآلات المعقدة التي تستخدم بشكل متزايد في صناعة التعدين، وفي كثير من الأحيان قد يكون العثور على أفضل الأشخاص للقيام بهذه الأدوار أمرا صعب المنال بالنسبة إلى صناعة التعدين والمعادن، وتبرز التصورات السلبية والمخاوف بشأن مستقبل الصناعة خلال دورات الكساد في قطاع التعدين، وقد عززت جائحة كورونا اتجاه شركات التعدين العالمية الكبرى إلى مزيد من الاعتماد على التقنيات المتجددة التي باتت أكثر كثافة في الاستخدام على حساب الأيدي العاملة".
مع هذا يرى كثير من الخبراء أن مستقبل شركات التعدين بل وصناعة المعادن ككل يرتبط بعمليات الاندماج والاستحواذ بين الشركات باعتبارها العنصر الحاسم في دفع الصناعة إلى الأمام، ويعتقد الخبراء أن الفرق بين عمليات الاندماج السابقة والعمليات المماثلة التي يمكن أن يشهدها القطاع مستقبلا تتمثل في أن الذهب كان المحرك الرئيس لكثير من عمليات الاستحواذ والدمج في الماضي، بينما تشير التقديرات إلى أن الأعوام المقبلة ستشهد زيادة كبيرة في عمليات الاندماج والاستحواذ بين الشركات المنتجة للمعادن المهمة.
وتوقع إل.دي. ارثر المحلل المالي في بورصة لندن، استمرار نشاط عمليات الاستحواذ والاندماج في الأعوام الخمسة أو العشرة المقبلة حيث ينمو الطلب على المعادن المهمة، ومن الممكن استخراجها بتكلفة نسبية أقل مع امتلاك الشركات قدرات مالية وتقنية أعلى نتيجة عمليات الاندماج، وسيترافق هذا مع اتجاه شركات التعدين إلى تبسيط محفظتها وتسريع تحولها نحو سلع المستقبل.
وتتفق وجهة النظر تلك مع الأرقام المتعلقة بالعام الماضي، إذ شهد قطاع التعدين 1402 عملية اندماج واستحواذ عبر العالم بلغت قيمتها 75 مليار دولار، وعلى الرغم من ذلك فإن تلك القيمة تقل عن قيمة عمليات الاندماج والاستحواذ في عام 2021 بنحو 35 في المائة. وبغض النظر عن نجاح صفقة الاندماج بين شركة جلينكور وتيك للموارد، فالمؤكد أن قطاع التعدين سيشهد صفقات اندماج واستحواذ ناجحة في الأعوام المقبلة، لتزيد الشركات العاملة في هذا المجال من قدرتها لمواجهة التحديات الدولية والتغيرات الجارية في هيكل الاقتصاد العالمي.

الأكثر قراءة