السياسة النقدية .. السيناريو غير المريح لا يزال في الأفق

السياسة النقدية .. السيناريو غير المريح لا يزال في الأفق

بذل محافظو البنوك المركزية قصارى جهدهم للتأكيد من أنهم يستطيعون الحفاظ على خط فاصل أنيق بين الإجراءات المتخذة لكبح جماح التضخم، وتلك التي تهدف إلى إصلاح الاضطرابات في النظام المصرفي.
ذلك أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة ربع نقطة، على الرغم من انهيار ثلاثة بنوك إقراض أمريكية متوسطة الحجم.
لكن، ألق نظرة على الميزانية العمومية للبنك المركزي، ليتضح لك أن عدم الاستقرار المالي كان له تأثير في السياسة النقدية. أخيرا ضخ الاحتياطي الفيدرالي نحو 300 مليار دولار في النظام المصرفي الأمريكي بعد أن كشف النقاب عن تسهيل جديد، هو برنامج التمويل البنكي المؤقت. هذا التسهيل الذي يعرض شراء سندات الخزانة الأمريكية من المقرضين بقيمتها الاسمية مقابل قروض البنك المركزي الرخيصة، هو استجابة مباشرة للمشكلات التي حلت ببنك وادي السيليكون البائد.
جزء كبير من هذه المشكلات يعود إلى سوء إدارة المخاطر، حيث اتخذ بنك سيليكون فالي برهانا سيئا وضخما على السندات الحكومية الأمريكية طويلة الأمد التي تراجعت قيمتها خلال العام الماضي. لكن الانعكاس الحاد في سعر تلك السندات يرجع في الأساس إلى الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي الأمريكي.
خلال العام الماضي لم يؤد تركيز الاحتياطي الفيدرالي على محاربة التضخم إلى زيادات كبيرة في أسعار الفائدة فحسب، بل أدى أيضا إلى تصفية أكثر من 400 مليار دولار من الديون الأمريكية من الميزانية العمومية للبنك المركزي بالتزامن مع موعد استحقاق السندات وعدم استبدالها.
جاء ذلك بعد فترة طويلة من توسيع الاحتياطي الفيدرالي ميزانيته العمومية بشكل كبير في إطار البرنامج الخاص بالتسهيل الكمي لدعم الأسواق والاقتصاد عبر شراء السندات لمواجهة تأثير جائحة كوفيد - 19. بين آذار (مارس) 2021 وآذار (مارس) 2022 اشترى الاحتياطي الفيدرالي سندات قيمتها 800 مليار دولار، واشترى أيضا ما قيمته تريليوني دولار من سندات الخزانة خلال فترة الـ12 شهرا السابقة.
ومن المتوقع أن يستمر التوسع المتجدد في الميزانية العمومية في الأسابيع المقبلة. قال مايكل هويل، المدير الإداري لشركة كروس بوردر كابيتال: "في عالم مليء بالديون الضخمة، يجب أن تعمل الأسواق العالمية كنظام إعادة تمويل ضخم تعد فيه الطاقة الاستيعابية للأصول - أي الميزانيات العمومية والسيولة - أمرا أساسيا".
وبالنسبة لبعض مراقبي الاحتياطي الفيدرالي، مثل إد برايس من مؤسسة إيرجو إنتليجنس البحثية، التحول من الانكماش إلى التوسع يؤجج أيضا الشعور بأننا نعيش في عصر العكس المفاجئ للسياسة النقدية من قبل البنوك المركزية. فقد ذهب رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بقيادة جاي باول، من التلميح إلى عودة زيادات كبيرة مقدارها نصف نقطة مئوية إلى ضخ مئات المليارات في النظام المصرفي.
من الناحية النظرية، ينبغي أن يعوض توسع الميزانية العمومية عن تأثير التشديد النقدي من قبل الاحتياطي الفيدرالي. لكن هذا لا يعني أن الأسعار على وشك الارتفاع. فربما قال ميلتون فريدمان، إن التضخم ظاهرة نقدية دائما وموجودة في كل مكان، لكن الأموال التي تنتجها البنوك المركزية ليست سوى كمية صغيرة من المعروض الكلي. ففي المملكة المتحدة، تشكل احتياطيات الأوراق النقدية والعملات المعدنية المرتبطة ببنك إنجلترا أقل من الخمس بقليل. ويأتي الباقي من الودائع التي تحتفظ بها المؤسسات المالية الخاصة.
النتيجة الطبيعية لهذه الودائع هي إنشاء الائتمان. فقد كانت هناك بالفعل إشارات على جانبي الأطلسي على أن البنوك تقوم بتشديد معايير الإقراض استجابة لارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض مستويات السيولة.
لقد اعترف باول بأن مزيدا من التشديد قادم، ليس فقط من زيادات أسعار الفائدة، بل من الاضطرابات المصرفية التي سيكون لها تأثير "يعادل زيادة" أسعار الفائدة. مع ذلك، لا أحد يعرف تماما ما مدى قوة "الزيادة" المرتبطة بالاضطراب.
وكما تقول كلوديا ساهم، وهي خبيرة اقتصادية سابقة في الاحتياطي الفيدرالي ومؤسسة مدونة ستي آت هوم الضخمة: "لم يضع أحد اللوم في إخفاقات البنوك على مجموعة السياسات، لكن الحقيقة هي أن هذا ما حدث".
يضيف تورستن كلوك، كبير الاقتصاديين في شركة أبوللو، أن هذه حالة تعكس ضرورة توخي الحذر فيما تطلبه. حاولت البنوك المركزية العالمية خلال العام الماضي تشديد شروط الائتمان تدريجيا، ومع استمرار الرياح المعاكسة للبنوك، قد يأتي التشديد أسرع بكثير.
من الممكن أن تتبدد الاضطرابات المصرفية، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة تحد من خطر تهافت المودعين على البنوك عبر ضمان جميع الودائع المؤمنة أو غير المؤمنة. وتقول سابرينا خانيش، كبيرة الاقتصاديين في شركة بيكتت أسيت مانجمنت: "لقد كونت الأسر والشركات مدخرات فائضة أثناء الجائحة ولا يوجد كثير من المديونية الزائدة في النظام. نتيجة لذلك الوضع الآن مختلف كليا عما كان عليه في عام 2008".
لكن خطر السيناريو غير المريح لا يزال يلوح في الأفق بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، حيث يؤدي مزيج من التشديد النقدي السريع والإجهاد المصرفي إلى أزمة إقراض سيكون لها تأثير أكبر في الطلب مما هو مرغوب. وقد تساعد أزمة الإقراض والتباطؤ في الاقتصاد على كبح جماح التضخم، لكن قد لا يكون ذلك بطريقة تحرص البنوك المركزية على أن تكون صاحبة الفضل عليها.

الأكثر قراءة