المزايا السعودية .. الرؤية عالمية
تسير المملكة العربية السعودية اليوم - بفضل الله - ثم "رؤية 2030" بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وبرؤية وإشراف الأمير محمد بن سلمان ولي العهد - بخطى حثيثة نحو تنويع الاقتصاد الوطني، وتعزيز مكانة المملكة بين دول العالم، وقد تم تحقيق عديد من الإنجازات في هذا الجانب خلال الفترة الماضية، وفي كل فترة تطرح برامج تعزيزية لدعم مشاريع التنوع الاقتصادي التي تمثل قوة جديدة في مفهوم الاقتصاد الكلي، وتعد مرحلة ذات أهمية بالغة للاقتصاد الوطني.
وعلى هذا الصعيد، أعلن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، إطلاق أربع مناطق اقتصادية خاصة من أجل تطوير وتنويع الاقتصاد السعودي وتحسين البيئة الاستثمارية، والمناطق الاقتصادية الخاصة SEZ تمثل مناطق للنمو الاقتصادي السريع باستخدام الحوافز الضريبية والتجارية، لجذب الاستثمار الأجنبي والتكنولوجيا.
للمناطق الاقتصادية الخاصة تاريخ طويل وأثر واضح في تنمية التجارة الدولية، خاصة تلك التي لها مزايا نسبية على طرق التجارة الدولية الآمنة - مثل جبل طارق وهامبورج وسنغافورة - التي استطاعت أن تقدم خدمات تضمن التخزين والتبادل الحر، وتم إنشاء أول منطقة "صناعية حرة" حديثة في شانون في أيرلندا في 1959، ثم انتشر هذا النموذج في معظم الدول الصناعية، وكانت تسمى مناطق تجمعات صناعية وتختص بنوع محدد من الصناعات كصناعة السيارات مثلا.
مع نهاية السبعينيات وجدت دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية في نموذج المناطق الاقتصادية الخاصة فرصا واعدة من أجل جذب الاستثمار من الشركات متعددة الجنسيات في التصنيع كثيف العمالة، ومع نجاح التجارب أصبحت هذه المناطق حجر الزاوية لسياسة التجارة والاستثمار في الدول التي ابتعدت عن سياسات استبدال الواردات، وتهدف إلى الاندماج في الأسواق العالمية من خلال سياسات النمو التي تقودها الصادرات.
في هذا السياق التاريخي تم إنشاء أول أربع مناطق اقتصادية خاصة في الساحل الجنوبي الشرقي للصين في 1980، وتألفت مما كان يعرف آنذاك بالمدن الصغيرة في شنتشن وتشوهاي وشانتو في مقاطعة جوانجدونج وشيامن في مقاطعة فوجيان. وفي هذه المناطق طبقت الصين تجربة إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة في نطاق الاختصاص القضائي العام للدولة، لأغراض إدخال قوانين ولوائح مختلفة تكون عادة أكثر ملاءمة للتجارة والاستثمار، وذلك من أجل منح الاقتصاد فرصة لمنافسة الدول الصناعية الكبرى ولتعزيز التجارة الخارجية وجذب الاستثمار الأجنبي، ولتحقيق ذلك سمح للحكومات المحلية حينها بتقديم حوافز ضريبية للمستثمرين الأجانب وتطوير البنية التحتية الخاصة بهم دون موافقة الحكومة المركزية في الصين، كما سمح للشركات التجارية باتخاذ معظم قراراتها الاستثمارية والإنتاجية والتسويقية مع تقنين الملكية الأجنبية لهذه المشاريع.
وعلى الرغم من أن هذه المناطق الاقتصادية بدأت كمدن صغيرة، إلا أنها سرعان ما اجتذبت الاستثمار الأجنبي وأصبحت مدنا مزدهرة، ومع التوسع السريع في الصناعات الخفيفة وصناعات السلع الاستهلاكية وتزايد عدد السكان - على وجه الخصوص، نما عدد سكان شنتشن من نحو 30 ألفا في 1979 إلى أكثر من مليون بحلول بداية القرن الـ21، ومع هذا النجاح الواسع فتحت الحكومة الصينية في 1984 مدنا جديدة على طول الساحل أمام التجارة والاستثمار الأجنبيين، وقدمت 14 مدينة من هذه المدن "المفتوحة" للمستثمرين الأجانب الحوافز نفسها الموجودة في المناطق الاقتصادية الخاصة، لكن مع ضرائب دخل أعلى على الشركات، وفي 1992، قررت الحكومة الصينية تبني بعض السياسات نفسها في نحو 20 مدينة رئيسة في الصين الداخلية، بما في ذلك عديد من عواصم المقاطعات، كوسيلة لتشجيع الاستثمار الأجنبي فيها. وكان لهذه التجربة الصينية الثرية أثر بالغ في ظهور العملاق الصيني وهيمنته على المشهد الاقتصادي العالمي.
وأشار ولي العهد عند إعلانه المناطق الاقتصادية الخاصة إلى أنها ستتيح فرصا هائلة لتنمية الاقتصاد المحلي، واستحداث الوظائف، ونقل التقنية، وتوطين الصناعات، كما ستفتح مجالات واسعة لتنمية مجتمع الأعمال السعودي، حيث تتكامل المناطق الاقتصادية الخاصة مع الاقتصاد الوطني، وتعزز من تحقيق مستهدفات "الرؤية" خاصة في مجالات دعم الابتكار والمساهمة في نقل التقنية وبناء الكفاءات المحلية عبر استقطاب الشركات العالمية، وعلى غرار التجربة الصينية، فإن هذه المناطق الخاصة قادرة على توفير فرص كبرى للشركات المحلية ورواد الأعمال، مع ما ستحققه للمجتمعات المحلية من فرص عديدة ووظائف غير مباشرة، ومن ذلك نمو السياحة العالمية فيها.
ولتحقيق ذلك، فإن المناطق الخاصة ستشكل منصات لوجستية وصناعية متكاملة، تتمحور حول المستثمر، وتتمتع بمواقع استراتيجية في الرياض، جازان، رأس الخير، ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية شمالي مدينة جدة.
وقد أكدت التجارب الدولية للمناطق الاقتصادية والدراسات في القانون الدولي والتجارة العالمية أن نجاح تجربة المناطق الاقتصادية الخاصة، يعتمد على ابتكار تجربة قانونية خاصة بها، وأن هذه المناطق الخاصة تتمتع بنظم تشريعية ولوائح خاصة للنشاطات الاقتصادية، تشمل الحوافز المقدمة للشركات معدلات ضرائب تنافسية، وإعفاءات للواردات ومدخلات الإنتاج والآلات والمواد الخام من الرسوم الجمركية، والسماح بالملكية الأجنبية بنسبة 100 في المائة، والقدرة على استقطاب أفضل الموارد البشرية العالمية، وهذه التشريعات من شأنها أن تجعل هذه المناطق من الأكثر تنافسية في العالم لاستقطاب أهم الاستثمارات النوعية، وتمثل مرحلة أولى من برنامج طويل المدى يستهدف جذب الشركات الدولية.