مواجهة الأزمات تتطلب إعادة تنشيط الرأسمالية

مواجهة الأزمات تتطلب إعادة تنشيط الرأسمالية

بعد عقد من الإصلاح التنظيمي المالي الجذري، المصمم لتخليص العالم من المؤسسات التي كانت "أكبر من أن تفشل"، كان من المفترض أن تكون هذه المرة مختلفة. مع الأسف لم تكن. ليست المؤسسات الكبيرة "كريدي سويس" فحسب، بل حتى المتوسطة الحجم "بنك سيليكون فالي" تبين أنها مهمة، وامتدت شبكة الأمان مرة أخرى، وفشلت أفضل الخطط التنظيمية الموضوعة في أول صدام لها مع الواقع.
هناك إيجابيات يمكن استخلاصها من الأزمة الأخيرة. حتى الآن، نحن نعاني خسائر مالية بدلا من انهيار شامل، وضغطا ائتمانيا بدلا من أزمة. تحمل بعض حاملي الأسهم "في بنك سيليكون فالي" وحملة السندات "في كريدي سويس" هذا العبء. كان الدعم الحكومي في شكل ضمانات للودائع أو الخسائر، وليس ضخا مباشرا في الأسهم.
لكن من نواح أخرى تبدو هذه الميلودراما المالية مألوفة على نحو مخيف. إنها قصة عمرها قرون عن صانعي السياسات الذين يتحدثون بصرامة ثم يخضعون، خوفا من العواقب المترتبة على تمسكهم بخططهم. لا نزال عالقين في "حلقة هلاك"، حيث تولد المخاطر المؤمن عليها مزيدا من المخاطر.
في حين إن هذه القوة المحركة ليست جديدة، إلا أن سرعتها كذلك. شهدت الأحداث الأخيرة توسيعا كبيرا في شبكة الأمان الحكومية وازدادت عمقا، بتغطيتها ما يتجاوز النظام المالي وصولا إلى الأسر والشركات.
منذ الأزمة المالية العالمية، تعرض الاقتصاد العالمي لصدمتين هائلتين، أولا جائحة كورونا ثم تكلفة المعيشة. تم تخفيف هاتين بتدابير نقدية ومالية ذات حجم ونطاق لم يسبق لهما مثيل.
خلال جائحة كورونا، تم توسيع التيسير الكمي في البنوك المركزية الكبرى بأكثر من عشرة تريليونات دولار والسياسة المالية بأكثر من سبعة تريليونات دولار. الدعم المباشر للأسر والشركات، في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ومنطقة اليورو وحدها، بلغ نحو 25 و20 و12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني، على التوالي. وخلال أزمة تكاليف المعيشة، بلغ متوسط الدعم المقدم للأسر والشركات في جميع أنحاء أوروبا أكثر من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني. هذا الدعم يتفوق على ضخ الأسهم في البنوك في 2008/2009.
ولأنه يصعب على الأسر والشركات تأمين ذاتها ضد صدمات من هذا النوع، فإن الحجة لمصلحة التأمين الاجتماعي قوية. لقد فعلت ذلك مرارا وتكرارا بنفسي. عدم توفيره قد يخلف ندوبا اقتصادية واجتماعية كبيرة ودائمة بسبب بطالة الأسر وإعسار الشركات.
كانت تلك قصة السبعينيات والثمانينيات عندما تم ـعقب الصدمات الكبيرةـ توفير قدر ضئيل من التأمين، ما خلف ندوبا طويلة الأجل، تتضح أكثر في ارتفاع معدلات البطالة. لقد تعلمت السياسة في القرن الـ21 تلك الدروس، باستجابات أكبر وندوب اقتصادية واجتماعية أقل نتيجة لذلك.
لكن يتحمل التأمين التكاليف بإعادة تشكيل سلوك المخاطرة. ما إذا كانت هذه التشوهات تقوض فوائد الوقاية هي مسألة درجة وليست مبدأ. حتى عندما يكون كل فعل فردي مبررا في وقته، ربما تصبح العواقب التراكمية مع ذلك دون المستوى الأمثل. الأدلة تتزايد على أننا ربما عند هذه النقطة أو قريبين منها.
أولا، شبكات الأمان التي تديرها الدولة أحادية الجانب بطبيعتها. ومن الطبيعي أن يؤدي عدم التماثل المضمن هذا إلى إمالة المخاطر التي تهدد الطلب والتضخم إلى الازدياد. في الآونة الأخيرة، تحققت تلك المخاطر. خلال كوفيد، أعطت الاقتصادات الكبرى في العالم أكبر جرعة مزدوجة من العلاج المالي والنقدي في تاريخ البشرية، ما أشعل النار التضخمية التي تحاول البنوك المركزية، المذعورة، إخمادها الآن.
ثانيا، عندما يتم إنفاق التأمين الحكومي في أعقاب الأحداث القاسية، فإنه يزيد من الدين الحكومي. تضاعفت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الكبرى منذ 2008. ومع وصول الدين إلى السقف، أو اقترابه من تجاوزه في عديد من الاقتصادات الكبرى، أصبح الحيز المتاح للتحرك المالي مقيدا الآن. هذا يقلل من مجال تطبيق الاستراتيجيات في حال حدوث صدمات في المستقبل ويقيد الاستثمار العام، ما يضر بالنمو.
ثالثا، شبكة الأمان نفسها التي تقي شركات الغزال "عالية النمو" واليونيكورن "الناشئة برأسمال يبلغ مليار دولار" من أن تسوى بها الأرض، تقي أيضا شركات الزومبي "الحية الميتة" من القتل. إذا طبق هذا على نحو مبالغ فيه، فإنه لا يفسح المجال للدمار الإبداعي ويقلل من ديناميكية الأعمال. هناك أدلة متزايدة على طول ذيل الشركات الراكدة، وانخفاض معدلات دخول الأعمال التجارية والخروج منها، وانخفاض المنافسة في السوق.
تضيف هذه التأثيرات سرعة إلى "حلقة الهلاك". سيتطلب عكس مسارها فترة طويلة من استقرار الاقتصاد الكلي، مثل تلك الفترة التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية.
في عالم اليوم الذي يتسم "بالأزمات المتعددة"، يمكننا أن نأمل في اعتدال متجدد للاقتصاد الكلي، أو حدوث طفرة نمو من تلقاء نفسها. لكن الأمل ليس استراتيجية سياسية حكيمة. لقد حان الوقت لإعادة تشكيل شبكات الأمان، في مجال التمويل وأكثر، وإعادة تنشيط الرأسمالية تحسبا للأزمة الكبرى التالية.

*كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا سابقا، والرئيس التنفيذي للجمعية الملكية للفنون حاليا

الأكثر قراءة