المعدن النادر .. الحاجة والعجز

أصبحت مادة الليثيوم هي قصة وجوهر المعدن الذي يعيد إلى الأذهان "حمى الذهب"، إذ تتهافت عليه كثير من الدول لأهميته لأنه يدخل في كثير من قطاعات الصناعة الضرورية المختلفة. وقد باتت الاستخدامات التجارية لليثيوم في القرن الـ21 أوضح من أي وقت مضى، فلا يستخدم الليثيوم في تصنيع بطاريات الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة فحسب، بل إن عملية التحول إلى الطاقة النظيفة قد تصبح مستحيلة دون الليثيوم، الذي يستخدم في تصنيع البطاريات التي تشغل السيارات الكهربائية وتختزن الطاقة الكهربائية المتولدة من مصادر متجددة. وارتفع الطلب في كثير من الدول على الليثيوم خلال الأعوام الأخيرة بالتوازي مع اتجاه مصانع السيارات لتصنيع المركبات الكهربائية. ونلاحظ أن أسعار الليثيوم المرتفعة والاحتياطيات الكبيرة وتوقعات الطلب القوية من قطاع البطاريات في العقد المقبل، جميعها عوامل تعزز النظرة المتفائلة تجاه الاستثمار في المعادن الاستراتيجية، بما في ذلك الليثيوم.
وعلى هذا الصعيد فقد صدرت تحذيرات تشير إلى أن السوق ستواجه تراجع الإمدادات في هذا المعدن خلال الأعوام القليلة المقبلة، ولذلك فإن احتمالات نقص إمدادات مادة الليثيوم المكون الرئيس للبطاريات، ليست مستغربة ولا جديدة بسبب زيادة الطلب، مع الارتفاع السريع في وتيرة صناعة السيارات الكهربائية حول العالم، ولا سيما على الساحة الأوروبية. الاتحاد الأوروبي اتخذ قراره بحظر مبيعات السيارات التي تعمل بالوقود التقليدي بحلول 2030، والقرار يتضمن التخلي نهائيا عنها بحلول 2050، العام الذي التزمت فيه أغلب الدول بالوصول إلى مستويات صفرية من الانبعاثات. وهذا يعني أن الليثيوم سيشهد مزيدا من الطلب لدعم صناعة البطاريات، في ظل توقعات بزيادته خمسة أضعاف بحلول 2030 على مستوى العالم. أي أن الضغوط بهذا الشأن بدأت تظهر بقوة على الساحة.
على الساحة الأوروبية التي التزم المشرعون فيها بدفع عجلة تصنيع السيارات الكهربائية بقوة إلى الأمام، تحتاج من الليثيوم إلى ضعف الكمية الحالية المحددة بـ200 ألف طن سنويا. بعض التوقعات تشير إلى أن الحراك الأوروبي بهذا الشأن يتطلب إمدادات من هذه المادة تصل إلى 550 ألف طن سنويا. وإذا كانت الدول كلها تسير نحو تصنيع السيارات الكهربائية بوتيرة عالية، فإنها ستعاني نقص الليثيوم، فإن الأوروبيين سيواجهون مخاطر أكبر في هذا المجال، ما يعقد مسار التصنيع في دولهم. وهذا يعني أن من المحتمل أن تواجه الصناعة بأكملها تأخيرا، ليس فقط في تصنيع السيارات، بل في استكمال الاحتياج من هذه المادة المحورية. فباستثناء البرتغال، فمن خلال البيانات الإحصائية الرسمية لا توجد دولة أوروبية في قائمة الدول الأكثر امتلاكا لاحتياطيات الليثيوم. بينما تتصدر دول في النصف الجنوبي للكرة الأرضية قائمة أكبر الاحتياطيات وخصوصا ثلاث دول هي تشيلي وأستراليا والأرجنتين. وفي الوقت نفسه سيشكل هذا الوضع خطرا مستقبليا على الدول الأوروبية ويجعلها تحت رحمة وضغط هذه الدول التي تستحوذ وتحتكر هذه المادة النادرة والثمينة.
واللافت، أن المواقع التي يتم فيها التنقيب عن الليثيوم ليست قليلة فحسب، بل تعاني شحا في هذه المادة، إلى درجة أن كثيرا من مشاريع التنقيب لا تتم أو تتوقف لعدم الجدوى الاقتصادية لها. بل يشير بعض الخبراء في هذا المجال، إلى أن نوعية الليثيوم الأوروبي أقل من غيرها من النوعيات حول العالم. هذا الوضع على الساحة الأوروبية، يؤكد حقيقة، صعوبة المنافسة مستقبلا مع الصين في عمليات إنتاج السيارات الكهربائية. فبكين تمكنت في الأعوام القليلة الماضية من الوصول السهل إلى السوق الأوروبية عبر سيارات كهربائية بنوعية مرتفعة وفق مواصفات الاتحاد الأوروبي المشددة. ما يعني أن الصين التي لا تواجه مشكلة ملحوظة في إمدادات الليثيوم، يمكنها أن تتصدر المشهد العام في هذه السوق. ويعزز موقفها في ذلك استثمارها المكثف لمادة الليثيوم في القارة الإفريقية الغنية بها.
وتتمتع الصين بموقع قوي على ساحة الليثيوم، لأنها تتحكم بـ60 في المائة من معالجة هذه المادة على المستوى الدولي، وهي بالمناسبة، تمتلك احتياطيات لا حدود لها من الرمال المستخدمة في إنتاج أشباه الموصلات، التي تعاني أيضا الاضطراب في الإمدادات. لا توجد أمام أوروبا بدائل كثيرة، سوى التركيز على تأمين احتياطيات معقولة من الليثيوم في الأعوام القليلة المقبلة، إذا ما أرادت أن تكون ضمن المناطق الناجحة في إنتاج السيارات الكهربائية، وتلبي التزاماتها على صعيد التغير المناخي، وخفض الانبعاثات. وهنا تكمن المشكلة الكبرى، وهي أن الليثيوم لا يكون سهل المنال، لأن بلدا كالصين ستعطي الأولوية لصناعاتها المعتمدة على هذه المادة. وليس أمام الاتحاد الأوروبي سوى العثور على مصادر ذاتية منها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي