الوجه الآخر للتضخم
قضايا إخلاء المنازل في الولايات المتحدة نتيجة عدم قدرة أصحابها على مواصلة مدفوعات قروضهم، ليست جديدة، لكنها شهدت في الآونة الأخيرة ارتفاعا ملحوظا، ما أدى إلى تفاقم المشكلة على صعيد الإسكان عموما. والسبب الرئيس لهذا الارتفاع لا يعود فقط إلى تراجع مصادر التمويل العقاري، أو إلى الارتفاع المستمر والمطرد للفائدة، بل يشمل أيضا عاملا مهما، هو انتهاء العمل بالقرارات الطارئة المساعدة للأمريكيين التي اتخذها البيت الأبيض خلال جائحة كورونا، بما في ذلك إعفاءات محددة من الأقساط لفترات بعينها، أو حتى قيام بعض مصادر التمويل بإعادة جدولة الديون المستحقة، وغير ذلك من الأسباب التي أسهمت في تراجع عمليات إخلاء المنازل، المعروفة "شعبيا" بوضع يد الجهات المانحة للقروض. ويبدو واضحا، أن هذه المشكلة تؤثر بقوة في الساحة الشعبية، وتربك المشهد العام الذي يسيطر عليه التضخم.
وتيرة إخلاء المنازل عادت إلى ما قبل الجائحة، بل زادت عن مستوياتها بمعدل 1367 في المائة، في الوقت الذي سجلت فيه الدوائر المختصة، أن أكثر من ثلث سكان الولايات المتحدة يعيشون في مساكن مستأجرة. وقضايا الإخلاء هذه عادة ما تصاحبها خلافات قضائية، تستهلك الوقت والمال من الأطراف المعنية بها. علما بأن مستويات إخلاء المنازل حتى في أوقات الاستقرار الاقتصادي في الولايات المتحدة تعد عالية، إذ تبلغ سنويا نحو 3.6 مليون حالة. والتراجع الذي حدث في العامين الماضيين، يعود أساسا إلى حزم الدعم الحكومي بسبب كورونا. وهذا ما جرى بالفعل في عدد من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة في الفترة الماضية، يضاف إليها العامل الأهم، وهو عدم قدرة أصحاب الرهن على مجاراة الارتفاعات المتواصلة للفائدة، خصوصا إذا كانت هذه الفائدة متغيرة، كما هو الحال في عدد كبير من الدول الغربية.
عمليات إخلاء المنازل لها تبعاتها الاجتماعية الخطيرة، فهي لا تشمل أصحاب القروض الذين يعجزون عن السداد، بل تضم بصورة أكبر مستأجري المساكن. فأغلبية هؤلاء لا توجد لديهم مدخرات، وإلا كانوا قد تقدموا بشراء مساكنهم، بل يعتمدون على الرواتب الشهرية، وإذا ما حدث أي طارئ مادي يعجزون عن دفع إيجاراتهم، الأمر الذي يؤدي بهم إلى المحاكم، أو في أسهل الأحوال إلى الإخلاء الطوعي. وهذا ما يرفع من الضغوط على حراك الخدمات الاجتماعية أيضا. ليست هناك حلول لمثل هذه القضايا سوى الإخلاء، علما بأن أغلبية القضاة يمنحون المدعى عليهم ما استطاعوا من وقت لتدبر أمورهم، بما في ذلك البحث عن مسكن أو رعاية اجتماعية أو معونة من هنا أو هناك. إنها مسألة اقتصادية اجتماعية متفاقمة حقا.
في ظل الموجة التضخمية العاتية التي تمر بها الولايات المتحدة، زادت الضغوط المالية على أصحاب المساكن والمستأجرين، والمشكلة أن الأمر سيستمر لأعوام عدة، ما يرفع من إمكانية زيادة معدل إخلاء المساكن في البلاد. والمشكلة المصاحبة، أن المشرعين الماليين سيواصلون رفع الفائدة العامة إلى أن تتم السيطرة على التضخم، ما يزيد من الضغوط على أصحاب القروض العقارية المختلفة.
اللافت أيضا بحسب المشرفين على الخدمات الاجتماعية والقضائية، أن نسبة كبيرة من أولئك المتعثرين، مدينون بمبالغ ليست مرتفعة، إلا أن الضغوط المالية العامة، والارتفاع المتزايد في أسعار المستهلكين، يضعانهم في موقع العجز عن السداد ومواكبة الارتفاعات المتكررة للإيجارات. المشكلة، أنه ليست هناك حلول سريعة لهذه المشكلات الاقتصادية الاجتماعية. فالغلاء مع انتهاء المساعدات، ورفع الفائدة والإيجارات، كلها عوامل تعمق المصاعب والتعقيدات الراهنة.