أزمة المصارف .. الاحتياط واجب
"الأزمة المصرفية لم تنته بعد"
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة
لن تكون الأزمة التي مرت بها بعض المصارف "الأمريكية والسويسرية" في الفترة الماضية، مشابهة لتلك التي انفجرت في 2008، وخلفت أزمة اقتصادية عالمية لا تزال آثارها موجودة على الأرض حتى اليوم. ولا شك في أن التدخل السريع للجهات الحكومية والتشريعية، أسهم في وضع أزمة هذه البنوك ضمن نطاق ضيق، خصوصا أن العالم لا يمكنه بالفعل تحمل أزمة مصرفية في هذا الوقت بالذات، مع المصاعب التي يمر بها الاقتصاد العالمي، وحالة عدم اليقين التي تلفه، والاضطرابات الجيوسياسية وآثارها المباشرة وغير المباشرة في الأداء الاقتصادي عموما. من هنا يمكننا فهم ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن، أخيرا، بأنه يفعل ما في وسعه لعلاج الأزمة، والجهود مستمرة في هذا الشأن.
الوضع الراهن على الساحة المصرفية الأمريكية والعالمية ككل، تحت المراقبة. وهذه الأخيرة مطلوبة جدا، إذا ما أخذنا في الحسبان أن غياب الرقابة "أو تراخيها" كان السبب الأول لحدوث أزمة 2008، عندما انهار بصورة مفاجئة بنك "ليمان براذرز" الأمريكي الضخم الذي كان يعد من أقوى المصارف المانحة للقروض العقارية. الانكشافات عليه كانت واسعة وكبيرة، سرعان ما امتدت إلى خارج الحدود الأمريكية لتصنع أزمة قال عنها آنذاك آلان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي"، إنها لا تحدث إلا كل 100 عام. بصرف النظر عن أنه كان على رأس الهيئة المالية العليا عندما كان التسيب "ينخر" النظام المصرفي الأمريكي، الذي أدى في النهاية إلى تلك الأزمة العالمية الهائلة.
بالطبع التدخل الحكومي الأخير في الأزمة التي لا يمكن أن نقول عنها عابرة حتى تتضح الصورة تماما، خصوصا بعد ما قاله بايدن بهذا الشأن، هذا التدخل أتى في الواقع ليس من أجل إنقاذ المصارف المتعثرة، بل لحماية النظام المصرفي. وهذه نقطة مهمة للغاية، لأن العامل الأهم في هذا النظام يستند إلى ما يمكن تسميته "لعبة الثقة"، فإذا فقدت هذه الأخيرة، تراكمت الغيوم المكونة لعاصفة يصعب الوقوف أمامها دون خسائر على المدى البعيد وليس حتى المتوسط. ومع ذلك، تراجعت ثقة المستثمرين بالقطاع المصرفي حول العالم، وشهدنا ذلك من خلال انهيارات كبيرة في أسهم هذا القطاع، إلى جانب طبعا الرعب الشديد من جانب المودعين، على الرغم من أن الإدارة الأمريكية أعلنت منذ اليوم الأول، أنها تضمن أموالهم، لكنها لا تضمن أموال المستثمرين.
وبصرف النظر عن الإجراءات السيئة التي اتخذتها البنوك المتعثرة وأدت إلى أزمة، والمعالجة السريعة الناجحة من جانب المشرعين، بما في ذلك استحواذ بنك "يو بي إس" السويسري على "كريدي سويس"، بصرف النظر عن كل هذا، فإن ثقة المودعين وصلت إلى أدنى مستوى لها على الساحتين السويسرية والأمريكية. فقد تراجعت الودائع في جميع المصارف الأمريكية بنهاية الشهر الماضي أكثر من 125 مليار دولار. صحيح أنه أقل بـ50 مليار دولار من الرقم القياسي المسجل في الأيام الأولى لتعثر بنك سيليكون فالي، لكنه يؤكد مجددا صعوبة استعادة الثقة السابقة بالنظام المصرفي في زمن قصير. واللافت، أن الودائع باتت أقل بـ860 مليار دولار من أعلى مستوى لها سجلته العام الماضي.
لا شك في أن الاستحواذات التي حصلت في الأيام الماضية، وأسهمت في التهدئة، شكلت محورا رئيسا مساعدا للحراك الحكومي من أجل حماية النظام المصرفي، لكن يبدو واضحا أن الثقة لا تزال مهزوزة في أوساط المستثمرين من جهة المشكلات الموجودة بالفعل في هذا النظام. والمثير في الأمر، أن حتى صفقات الاستحواذ هذه فيها من المخاطر الكثير على المدى البعيد. لماذا؟ لأنها أوجدت كيانات ضخمة ستولد أزمة كبرى في أول تعثر قد تقع فيه. فعلى سبيل المثال، بلغت أصول مصرف "يو بي إس" بعد الاستحواذ على بنك "كريدي سويس" 1.6 تريليون دولار، مع عدد من الموظفين وصل إلى 120 ألف موظف حول العالم. فعملية الإنقاذ نفسها، فيها من المخاطر المستقبلية الكثير، يجب على المشرعين أن يركزوا عليها في زحمة بحثهم عن الأدوات الناجعة لضبط النظام المصرفي وحمايته.
المهمة لن تكون سهلة، لكنها بالتأكيد ممكنة. فالعمل على تعزيز الثقة بالنظام المصرفي، لا يمكن أن ينجح إلا بإجراءات مقيدة جديدة في هذا القطاع الهائل، تشبه تلك التي اتخذتها الحكومات حول العالم في أعقاب أزمة 2008. والحق أن هذه الإجراءات شهدت بعض التراخي في الأعوام القليلة الماضية، خصوصا مع ارتفاع وتيرة التساهل في منح القروض غير الإنتاجية، بما فيها تلك التي ذهبت إلى الاستثمار في العملات الرقمية التي تبخر معظمها في فترة زمنية قصيرة، إلى جانب القروض غير المسنودة بالحد الأدنى من الضمانات. وفي الفترة المقبلة، ستكون مهمة المشرعين حقا حماية النظام المصرفي وليس البنوك، وتوفير الحماية للمودعين أكثر منها للمستثمرين. والانتباه أكثر إلى الكيانات المتضخمة التي نشأت من جراء الأزمة الأخيرة لبعض المصارف.