السحر الأبيض
يتسلل إليك عبر أذنيك فيحتل جزءا من عقلك الذي يترجمه إلى أفعال وأقوال وسلوكيات قد تقلب حياتك رأسا على عقب، وكذلك كل من حولك. إنه فن الإنصات أو فضيلة الإنصات، كما يحلو للبعض تسميته، ذلك السحر الحلال الذي يقربك للناس ويزيد من أثرك في مجتمعك، ولا يحتاج منك سوى غلق فمك وفتح أذنيك!
يقول أوليفر ويندل هولمز الابن، أشهر القضاة الأمريكيين في القرن الـ20، وأحد قضاة المحكمة العليا، "إن أكثر الطرق فاعلية للتقارب مع الآخرين والارتباط بهم في صداقات أن تستمع لهم بتفهم وتعاطف"، وأردف قائلا، "إن هناك القليل من الناس يمارسون السحر الأبيض، المتمثل في ممارسة مهارات الاستماع الجيد".
لم يخلق الله لنا لسانا واحدا وأذنين عبثا فلولا حاجتنا إلى تلك الحاسة وأهميتها لما أعطاها الله تلك الأولوية في كتابه -عز وجل-، وقدمها على حاسة البصر والفؤاد، ألطف ما في البدن، وأشد جزءا فيه حساسية للفرح والألم ومنشأ العقائد والاعتقاد. من هنا تفوق السمع، فقد شق الله حاسة السمع عند الجنين في أول أيامه في بطن أمه قبل نفخ الروح، وبعد نفخها صار يسمع دقات قلب أمه فتؤنس وحشته في الظلمات الثلاث، وهذا أول تعلقه بأمه، فإذا تمت ولادته كلما صاح وحملته أمه على صدرها، فإنه يسكت لسماع دقات قلبها ونبضه، الذي يستمد منه القوة للبقاء، وحاسة السمع تبقى في العمل أثناء النوم، كما أن دائرة السمع أوسع من دائرة البصر، لذلك حين أراد الله تبارك وتعالى أن يجعل أصحاب الكهف ينامون "309 سنين" ضرب على آذانهم لكيلا يستيقظوا.
فالسمع هو المرحلة الأولى للوعي والتعقل، وللسمع مكانة وله أهمية كبيرة في الإدراك والفهم. لذا أمرنا بالإنصات أي الاستماع بتركيز باستخدام كل الجوارح، إنه المهارة الأهم في الحوار والعنصر الأقوى في الإقناع والتأثير لكسب الآخرين.
منذ أن أهملنا وفرطنا في تلك الفضيلة حصلت الشقاقات والنزاعات بين الأهل والأصدقاء، وانهارت البيوت، وفقدت متعة الذهاب إلى العمل، وكثرت الأمراض النفسية والميل إلى العزلة.
إن فن الاستماع والإنصات مهارة يحتاج إليها الإنسان منذ نشأته وفي كل حياته، فالذي يحسن هذا الفن ويدقق فيما يسمع، ويتذوق ما يقال، قادر على تكوين صورة واضحة، وتحديد ما يريد أن يقول أو يفعل، فالإنصات الذكي يكسب صاحبه الثقة بالنفس، ويفرض احترامه على الآخرين.